الأحد، 20 أكتوبر 2019

بين سجنين؛ وجع واحد ونبض مختلف (1)


بين سجنين؛ وجع واحد ونبض مختلف (1)
لمى خاطر

بتاريخ 14/10/2018 تم نقلي من سجن الشارون إلى سجن الدامون، كانت الأسيرات (الأمنيات) الفلسطينيات في ذلك الوقت موزعات بين هذين السجنين، فيما كان الشارون هو السجن المركزي للنساء.

في الليلة السابقة أبلغتني ممثلة الأسيرات في سجن الشارون (ياسمين شعبان) بقرار النقل، جاءت إلى باب غرفتنا وعيناها دامعتان (رغم أن علاقتنا لم تكن قد توثقت بعد)، توقعتُ الأمر فقلت لها: أرجو ألا يكون الخبر الذي لا أتمناه! قالت لي: "بلى، غداً سينقلونك إلى سجن الدامون". ثم أعطتني حقيبة لأضع أغراضي فيها.

كتبتُ كثيراً للأسيرات في تلك الليلة، وخصوصاً بنات غرفتي، لأنني كنت أحسبه آخر عهد لي بهن، وما كنت أعلم يقيناً أننا سنعود لنجتمع كلنا في سجن الدامون، وسيصبح هو سجن الأسيرات الفلسطينيات المركزي. ثم سهرنا لنسترجع ذكرياتنا على مر شهرين إلا قليلا، هي مدة مكوثي في سجن الشارون، بعد الانتقال إليه من سجن عسقلان.

صباحا، ودعت صديقاتي، خصوصاً إسراء لافي وصفاء أبو سنينة ودينا سعيد وسونيا الحموري، وبنات غرفتي شروق دويات وجيانا الحياوي وملك سلمان، عند باب القسم عانقتني ياسمين مودعة، وطلبَتْ أن أسامحها إن بدر منها تقصير تجاهي خلال المدة الفائتة، قدرتُ لها موقفها كثيرا، وظللتُ أحمله معي، وقلت لها: "آخر ما كنتُ أتمناه الانتقال من هنا".

كانت مفارقة غريبة، هذا السجن كرهته وكرهتُ الانتقال منه، ربما لأنني لا أحب مغامرة الأماكن المجهولة، وإذا كان المجهول سجناً فإن استثقال النفس له يكون أكبر.

على عكس كثيرين، فإن فصل الخريف يمنحني طاقة غريبة للتفاؤل، وحب التأمل، والنظر بإيجابية لكثير من الأشياء. لذلك ربما لم أستثقل يومها رحلة النقل في سيارة نقل السجناء (البوسطة) رغم صعوبتها، مكثتُ طويلاً وأنا مقيدة اليدين والقدمين في تلك الحجرة الحديدية التي أقلّتني إلى الدامون، توقفنا طويلاً في سجن (لعله الرملة)، لإنزال وحمل سجناء آخرين، ثم استأنفت السيارة رحلتها.

أنفقتُ وقتي في قراءة القرآن والدعاء، والترنم بأنشودة (أخي أنت حرّ وراء السدود)، كان لها مذاق خاص حينما أنشدها وأنا مقيدة، لذلك ظلت رفيقة تنقلاتي العديدة في (البوسطة) لاحقا.

أحسستُ أنني سرتُ مسافة طويلة بين السجنين، أتيح لي خلالها أن أراقب مظاهر الخريف من ثقوب سيارة (البوسطة)، كانت هناك أشجار دائمة الخضرة على جبل الكرمل لا يغير حالها خريف أو شتاء، كان المشهد وحده – رغم أنه مجتزأ- كفيلاً بحملك على أن تتنفس فلسطين من أعماقك فلا تعود القيود بعدها شيئاً ذا قيمة وهي تكبّل يديك ورجليك، لتلك الخضرة الممتدة سلطة نفسية قادرة على اختراق العظام وتفتيت السلاسل وتخدير وجعها، وعلى زرع البهجة في أعماقك أمداً طويلا، وعلى مدّك بجرعات إضافية من الصبر والتجلّد والسكينة والعنفوان.

مررنا على نصب تذكاري لحريق جبل الكرمل الذي حدث عام 2010، وقتل خلاله نحو أربعة وأربعين شخصاً معظمهم من سجاني وحراس سجن الدامون، الذي أذهب إليه، وهو السجن الذي تم إخلاء الأسرى والأسيرات منه عام 2016، بعد حريق آخر. لم تكن الحرائق قد خلفت أثراً باديا، بعد مرور عامين على الحريق الأخير، على الأقل هذا ما بدا لي من خلال الثقوب الصغيرة، قلت في نفسي إن شموخ جبل الكرمل وإرادة النماء فيه أكبر من عمر محتليه.

ولكن هل تراه سهلاً الشعور بالانتماء إلى هذا الجبل الفلسطيني، وتأمل لوحته الجمالية بإجلال، وأنا أُساق لأكون معتقلة في سجن فيه؟! وفيما اللافتات العبرية تشوه كل دروبه ومنعطفاته؟ ربما من الجيّد أننا في السجن لا نشاهد شيئاً من آثار هذه الطبيعة الساحرة، رغم أن السجن فيها، ولا تتراءى لعيوننا إلا ألوان الجدر الإسمنيتة والأسلاك الشائكة. لعلّ هذا يمنع حالة التآلف مع المكان أو الشعور بالأنس فيه، وما أثقل أن يألف السجين زنزانته، أو يشتاق إليها إن خرج في رحلة نقل طويلة ومرهقة إلى المحكمة.

غادرتُ سجن الشارون إلى الدامون، وكنتُ أديمُ النظر خلفي، حين يأخذني الشوق لمن غادرتهنّ من صديقاتي، أو لكي أحاول إدراك الفروق بين ظروف السجنين، أو لرصد طبيعة حالي هناك وهنا، وكيف عشتُ هنا في عالم مختلف، كان يبدو أكثر رحابة وتلقائية ودفئا، رغم حداثة معرفتي بمعظم من التقيتهنّ فيه.

كان هذا الشعور يجدد الشغف بكثير من الأشياء والمعاني، دون إبصار السبب، مثلما سيكون هذا المكان فرصة للتعافي من كثير مما علق في القلب في كدر وهموم، إلا الاشتياق للأبناء والأحبة، فلا سبيل للتعافي منه، هل كان السبب في المكان أم في الوجوه التي تعيش فيه، أم في الانتقال نفسه؟.. لستُ أدري!

14/10/2019



الخميس، 10 أكتوبر 2019

الذين يظلون أنفسهم


إن من تلقاهم في رحابة من الزمان والمكان قد لا يشبهون أنفسهم حين تلقاهم في الضيق، وظروف القهر والكدر.

إنهم عملة نادرة أولئك الذين يظلون أنفسهم في كل الأحوال، وتظل أحوالهم غير المتقلبة تذكرك برونقهم وبحالك معهم وباحتفائك الشعوري بهم في برهة المعرفة الأولى.

إن هؤلاء الذين يظلون أنفسهم على مرّ الوقت يستحقون أن نسيّجهم بقلوبنا ونحكم عليهم جفوننا.

الأحد، 6 أكتوبر 2019

السجن، وعالم الكلمات (2)


السجن، وعالم الكلمات (2)

لعل حاجة المرء في السجن لقراءة شيء يخصه مبعثها رغبته في أن يظل هناك ما يصنع لعالمه الساكن لحظات مختلفة، وما يبدد رتابة الأيام المتكررة بأشياء جديدة، وما يرطب جفاف روحه بمشاعر صادقة، وما أسهل تمييز الصادق من المتكلف في تلك المساحة.

وإن كان للكلمات المتبادلة داخل السجن مذاقها، فلتلك الواردة للأسير من خارجه مذاقها المختلف أيضا، وكنت أرى مدى احتفاء الأسيرة برسالة تضامنية من غريب تطرق نافذتها وتنتشلها قليلاً من غربتها، واللافت أن رسائل وبطاقات التضامن كانت ترد للأسيرات من متضامنين أجانب فقط، ولم يحدث أن وصلت رسالة من متضامن عربي أو حتى فلسطيني، فكلمة التضامن حين يقرؤها أو يسمعها الأسير ممن لا تربطه به صلة قرابة تداوي لديه جرحاً وتشعره –على الأقل- أنه غير منسي ومتروك في عالمه البعيد. 

وكان يحدث أن تُقرِئ الأسيرة ما يردها من رسائل أهلها أو المتضامنين لصديقاتها في السجن، فلا أسرار كثيرة هنا، ومساحة –الخاص- ضيقة جداً ويشقّ الاحتفاظ بها. لفتني مرة موقف لأسيرتين تجاه صديقتهما التي لم يكن يصلها رسائل، فقد أنشأتا رسالة لها حافلة بكلمات التضامن والمودة، وطلبن من ممثلة الأسيرات أن تسلمها لها على اعتبار أنها وردت من خارج السجن، قرأتها الأسيرة بعينين دامعتين لكنها اكتشفت فوراً حقيقة الأمر، لأن الرسالة مكتوبة على أوراق دفاتر السجن، لكنها قدّرت لصديقتيها هذا الموقف كثيرا.

مع نهايات الشتاء المنصرم وصلتني عبر البريد رسالة من ابنتي بيسان، شممتُ فيها عطر قلبها، لكنها أحدثت في فؤادي جرحاً عميقا، وتحديداً حينما قرأت: "أهلاً أمي من الرصيف الآخر من الشتاء، ذاك الرصيف البارد الذي وقفتُ به وحدي، أنتظر مظلة قلبك لتحميني من برد الغياب". وختمتها قائلة:"كوني بخير دائما، وتذكري أنني لطالما وقفتُ في وجه العواصف وما ملت، أفأميل الآن والدرب درب حبيبتي؟".

سكنني الألم بعدها أياماً طويلة لم أتمكن فيها من كتابة شيء، بقيتُ كمن يحدق في الفراغ محاولاً لمس طيف بعيد، داهمني شوق شديد لهم جميعا، تمنيتُ لو أستطيع لقاءهم مدة يوم فقط، ثم أعود بعده إلى سجني، بدا لي كم أن هذا الغياب طويل وشاق، ويبدو أحياناً مثل دهر من الآلام فاتني خلاله كثير من الأحداث والأشواق والأصوات المترددة في أعماقي.

كانت أيامنا في (غرفة 2 ) حافلة بسيل من الأحداث التي أصبحت ذكريات، مرت أيامنا فيها سريعا –أو هكذا بدت بعد انقضائها- .. حين كنا فيها نحن الخمسة (أنا وإسراء لافي وبيان فرعون وإستبرق التميمي وبتول الرمحي) استحدثنا فكرة توثيق الحدث بهاشتاغ، فكل حدث أو موقف، مهم أو مؤثر أو طريف، نرمز له بهاشتاغ مستقى من مضمونه، وندونه على دفتر صغير، وقد تراكم على مدى أشهر عدد كبير منها، كان خلاصة معايشتنا ومشاهدتنا مواقف وأحداث كثيرة في سجن الدامون.

حين أطالع الآن تلك (الهاشتاغات) ينسكب في فؤادي شلال من الحنين والابتسام والشوق للّحظات التي شكلت فسيفساء حياتنا هناك، وأثْرتها و أثّرت فيها.
قبل أيام أرسلت لي بيان من سجنها تقول إنه كلما ألمّ بها همّ أو أسى فتحت ذلك الدفتر لتقرأ الهاشتاغات وتُسري عن نفسها بالضحك وتذكر ما مضى من أيام.

في آخر شهر لاعتقالي، وبعد أن تحررت بتول الرمحي ثم إسراء لافي، وقبلهن إستبرق، بقيتُ أنا وبيان فرعون في الغرفة، فانضمت إلينا ياسمين شعبان، وبقينا فيها إلى حين خروجي، حيث عادت ياسمين إلى غرفتها، وانتقلت بيان إلى غرفة أخرى، فيما بقيت غرفة 2 فارغة، في آخر عشرة أيام لي كنتُ أتفاجأ كل مساء بورقة صغيرة ألصقتها بيان وياسمين داخل خزانتي الحديدية، عليها عبارة مع توقيعهما ورقم اليوم المتبقي لي في السجن، وظل هذا العد التنازلي مستمراً حتى آخر مساء لي، حيث كانت البطاقة رقم (صفر) آخر عهدي بعالم الكلمات في (الدامون)، ثم لوحة صغيرة مخططة كانت بيان وياسمين قد أعدتاها مسبقاً تحمل أسماءنا نحن الثلاثة، وموقعة بهاشتاغ (إخوة الخندق)، وهو مصطلح له حكاية، وله معانٍ ثرية لدى من شاركن في نحته وجعله واقعا، حلّت عبره الألفة والمودة والتقارب، مكان خصومات قديمة زال أثرها من القلوب والتعامل والعلاقات، في ظاهرها وباطنها، داخل السجن.

بقدر ما كان ذلك (العدّ التنازلي) لأيامي، الموثق على البطاقات الصغيرة، يشعرني بدنو حريتي، فقد كان يترك في داخلي حسرة غامضة، فما أثقل وأعزّ أن ترى في عيني رفيقك في الزنزانة والسجن فرحة حقيقية بحريتك، فيما هو سيمكث بعدك شهوراً أو أعواما، وما أجلّ أن تراه منهمكاً في صناعة عالم من الفرح لك لكي يجعل لحظة خروجك محفوفة بذكريات لا تُنسى، فيما هو سيودعك على عتبة القسم في السجن ثم يقفل عائداً إلى زنزانته، أسيرَ مدة أخرى من الزمن، واللحظات اليومية المتشابهة التي سيعاني منها طويلاً بعدك، قبل أن يظفر بحرية مماثلة.

سيظل للكلمات دورها في صياغة معالم عوالمنا، أما حين تكون حبيسة القضبان فمن شأنها أن تحيي قلباً ميتا، أن تغيّر مساراً من التيه، وتنير فضاءً من الوعي، وأن تشيّد جسوراً من المحبة والثقة والاطمئنان. 




الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

السجن، وعالم الكلمات (1)


السجن، وعالم الكلمات (1)

بداية، لا بد من القول إنني احتجت وقتاً قبل أن أجد دافعاً لتدوين جانب من تجربتي في رحلة الأسر، كانت ثمة أمور تقيّد قلمي منذ خروجي، ليس منها الخوف، إنما الحاجة للتأمل الذاتي الداخلي في التجربة بأثر رجعي بعد الانتهاء منها، لذلك لم أكتب عنها كثيراً داخل السجن، ليس فقط لأنني كنت أرى أن الكتابة عنها بعد التحرر أفضل، حتى لا يكون القلم أسير ضيق المكان وإكراهاته، بل كذلك لأنني خشيت ألا أتمكن من إخراج النصوص التي سأكتبها، خصوصاً بعد مصادرة بعض رسائلي، ثم تأكد لي جدوى هذا التخوف يوم خروجي، عندما صادرت مخابرات السجن بعض دفاتري، رغم أن كل ما تحتويه كان اقتباسات من الكتب التي قرأتها في السجن، لكنَ اللجنة التي أُحضرت لفحص أغراضي المكتوبة خرجت بهذه (الغنيمة)، وما كان يليق بها أن تخرج خالية الوفاض!

حاولتُ خلال رحلة الأسر أن أُغيّب عن ذاكرتي مرحلة التحقيق، وهي التجربة الأقسى في الرحلة كلها، وكنت أرغب أن أفرد لها مساحة خاصة في يوم ما أراه مناسبا، إنما ظللتُ أتذكر ما قاله لي أحد المحققين يوما: إنه سينتظر أن يقرأ تجربتي أو يشاهدني أتحدث عنها، معقباً كلامه بتعبيرات ساخرة حول ما يتوقعه من مبالغات عن (وسائل التعذيب) في أقبية التحقيق، قطعتُ يومها عليه الطريق قائلة: "أنا لا أكذب، لكنني سأتحدث عن كل ما حدث معي، إنما ستظل هناك أمور لن أتحدث عنها إلا بعد زوال الاحتلال". لم أقدم له إجابة حينما سألني عن السبب، مثلما لم أفتش عن دوافع فضوله لمعرفة ما سأرويه عن التجربة.. 

الآن، ومع تنويه كثيرين لي بأنهم لا يزالون في انتظار قراءة شيء عن التجربة، أحاول استنهاض رغبتي في التدوين عنها، والاقتناع بجدوى ذلك قبل كل شيء، رغم أنني أعي جيداً أن الكتابة تريح النفس وتخفف عنها شيئاً من أثقالها..

وأذكر كم تمنيتُ لو كان لديّ قلم خلال مكوثي في زنازين التحقيق، لأخط بعض العبارات على جدرانها الجرداء، ذلك أن تلك العبارة القرآنية التي صافَحَت عينيّ في إحدى الزنازين (هم العدوُّ فاحذرهم) ظلّت خلال تلك الأيام محفورة على جبيني، ومرتسمة في مدى رؤيتي.

لاحقا، خلال وجودي في السجن، كانت الكتابة تلحّ عليّ في بعض الأحيان، فأسلم لقلمي أن يخطّ ما شاء، ثمّ وجدتُ مع نهاية الاعتقال أن معظم النصوص كانت وجدانية، بعيدة عن الفكر والسياسة، وهي حصيلة التأمل الصامت في كثير من الظواهر والأشياء داخل السجن وخارجه.

كان للكلمات داخل السجن أثرها الخاص، فليس هناك مواقع تواصل تنشغلُ بتصفحها والملل من محتوى طوفانها الكلامي، فأكثر ما يُكتب نتاج مشاعر حقيقية، في الرسائل وبطاقات التهنئة والمواساة والاعتذار التي تتبادلها الأسيرات. فبضع عبارات تصلك على بطاقة يدوية قد تحفر أثرها فيك أياماً وتنير عالمك بالتفاؤل، واسم أنشودة تحبها يُهدى إليك مخططاً على ورقة كفيل بأن ينثر في فضاء ذاكرتك شدو البلابل.

من الغاليتين: أنسام شواهنة وبتول الرمحي


 من الغالية بيان فرعون


وكانت الأسيرات يبرعْنَ في صناعة عالم ذكريات الكلمات، بأشكال وأنماط عديدة، ومن أمثلة ذلك أن تمرر كل أسيرة توشك على التحرر دفترها على بقية الأسيرات ليكتبن لها، وتكتب لهن على دفاترهن الخاصة، وهو دفتر كبير غلافه من الكرتون المقوى المغلف بقطعة قماش، وداخله مجموعة من الدفاتر تشتريها الأسيرات على حسابها الخاص من (كنتينة السجن)، كحال معظم المقتنيات في السجن. 
من الغالية ياسمين شعبان


كان هذا التقليد الجميل يعيدني إلى أيام الطفولة في المدرسة، يوم كانت وسائل التواصل شحيحة، أفضلها هاتف منزلي، يستخدم للمكالمات الضرورية فقط، وتُعدّ العائلة التي تملك مثله محظوظة، فكنا نتبادل الدفاتر لنكتب لبعضنا قبل كل عطلة صيفية قد لا يتاح لنا خلالها التواصل.

في إحدى أيام الأسر أحضرت لي الأسيرة عطايا أبو عيشة دفتراً يحوي رسمات مطبوعة غير ملونة، أدخله لها أهلها خلال الزيارة، وطلبت مني أن ألوّن إحدى رسماته وأضع توقيعي عليها، كانت فكرة جديدة ولطيفة لتوثيق الذكريات، ولكن لأنني لم أكن أحب التلوين بحثتُ عن رسمة خفيفة، فوجدتُ واحدةً لطائر محلّق، فلونتُ معظمه بالأخضر، وكتبتُ لها على الصفحة ذاتها: "يوماً ما سنغادر هذه القلعة على جناحيْ طائر أخضر". فيما بعد وجدتُ العبارة قد راقت لكلّ أسيرة أخذت الدفتر بعدي، فسجّلَتْها عندها.

لم أغادر السجن على جناحي هذا الطائر، ويبدو أن عطايا التي أمضت أربع سنوات في السجن، وستتحرر بعد أيام لن تغادر على جناحيه أيضا، لكننا سنظلّ على ثقة بأن بوابات السجن حينما تفتح يوماً للمغادرة الجماعية فسيكون هذا الطائر منتظراً على أعتابها، ليحمل الأسرى والأسيرات على جناحيه، كما فعلها في 18/10/2011.



الأربعاء، 11 يناير 2017

العمليات الفردية والبحث عن التنظيم



العمليات الفردية والبحث عن التنظيم
لمى خاطر


ما تزال كل عملية فردية نوعية ضد الاحتلال تعزز الاعتقاد بأن هذا الشكل من العمليات يحمل من الإيجابيات والحسنات أكثر من السلبيات المترتبة على استمراره شكلاً وحيداً للمواجهة مع الاحتلال في كل من ساحتي الضفة والقدس، فضلاً عن أن تلك السلبيات قابلة للاستدراك والمعالجة في حال توفّرت إرادة حقيقية للاستثمار في العمل المقاوم وتطويره وإنجاحه وتقليل فرص استنزافه ومحاصرة محاولات إجهاضه.

لقد بدا أنه مكن جداً المراهنة على نجاحات تصنعها الخلايا الفردية، أي التي قوامها شخص واحد أو بضعة أشخاص قرروا تنفيذ عملياتهم دون توجيه أو دعم مباشرين من تنظيم بعينه. بل يبدو أن هناك توجهاً نحو تجنّب العشوائية التي طبعت كثيراً من الأعمال الفردية في بداية موجة العمليات قبل أكثر من عام، لأن القليل من التخطيط وحسن اختيار الزمان والمكان والأداة أمور كفيلة بإخراج عملية ناجحة وبتحقيق قدر معقول من الإثخان في صفوف الاحتلال، والذي بدونه (أي الإثخان) ستظلّ معادلة المواجهة مختلة وغير قادرة على مراكمة الإنجازات.

ولا يعني هذا إلغاءً لدور التنظيمات في هذه المواجهة، أو التقليل من أثر فعل المقاومة المنظمة، فدور التعبئة الذي تلعبه تنظيمات المقاومة ووسائل إعلامها شكل رافعة مهمة لتسخين أجواء المواجهة والحث الدائم عليها وللإعلاء من شأن خيار المقاومة، إضافة إلى دور التوعية الذي لعبته منابر إعلامية عديدة خلال الفترة الأخيرة، لكن التنظيمات (وتحديداً حماس والجهاد) لم تعد قادرة على النهوض بجهودها الذاتية بأعباء المواجهة في الضفة والقدس، ولا إعادة المشهد المقاوم الذي كان حاصلاً خلال انتفاضة الأقصى بزخم ووفرة ونوعية عملياته. وأسباب ذلك معروفة أهمها استمرار حالة الاستنزاف لكوادر الحركتين وخلاياهما العاملة أو المتوقعة، واستهداف عناصرهما بالاعتقال لدى الاحتلال وأجهزة السلطة، وهو ما أفرز انكشافاً للجسد التنظيمي وضعفاً لم يستطع تجاوز الإفرازات السلبية لذلك الواقع.

كما لا يمكن لأحد إنكار أن كثيراً من العناصر المقاومة التي نفّذت عمليات فردية هي محسوبة على تنظيمات مقاومة أو نشطت في صفوفها، وبالتاي تأثرت بأجوائها التعبوية الدافعة للفعل، لكنها اتخذت – في الغالب- قرار التنفيذ بدافع ذاتي، واعتماداً على ما تيسر لها من أدوات.

سبق أن قلنا إن من ثمرات هذا النمط من المقاومة أن يضع الشعب كله أمام مسؤولياته تجاه المقاومة وفي إطار مشروع التحرير، لأنه يعني أن المقاومة ليست من مسؤولية الفصائل وحدها ويجب ألا تتكئ عليها فقط، بحيث يكتفي غير المنظمين بالمشاهدة. لكننا بتنا نرى أيضاً أنه نمط مربك للاحتلال ولسياساته التالية لأية عملية من هذا النوع، فعندما يغيب التنظيم المسؤول بشكل مباشر عن العمل تتشتت ردود المحتل وترتبك أداة انتقامه، خلافاً لما كان عليه الحال سابقاً في ردود فعله على العمليات المنظمة، حين كان أفراد ومؤسسات التنظيم يصبحون هدف الانتقام المباشر والسهل عقب كل عملية.

ولكن لأن الاحتلال اعتاد عقب كل عملية أن يحدد جهة أو تنظيماً ليحملها مسؤوليتها فقد رأيناه يسارع عقب عملية القدس البطولية إلى اتهام (داعش) في محاولة لاستجلاب تعاطف خارجي معه وتصوير نفسه كضحية (للإرهاب) رغم أن العملية استهدفت جنوداً مسلحين، ورغم أن ميول الشهيد لفكر السلفية الجهادية لا يعني بالضرورة أنه نفّذها بتوجيه من (داعش) أو سواها، فالفلسطيني حامل الفكر السلفي الجهادي يعيش في البقعة نفسها التي يعيش فيها غيره من الفلسطينيين الذين يقع عليهم ظلم الاحتلال، ومن حقه أن يقاومه كغيره، بل إن هناك شباباً يحملون أفكار حزب التحرير قد نفذوا عمليات في هذه الانتفاضة، رغم أن الحزب نفسه لا يتبنى الفعل المادي.

أما ارتباك الاحتلال إزاء هذا النمط من العمليات فقد حاول تداركه (بعد فشله في تحميله لتنظيم بعينه) بأن وجّه حربه نحو مواقع التواصل الاجتماعي وعدّها (التنظيم) المحرّض على الفعل، لدرجة دفعت (الكبينيت) الصهيوني لإصدار توصيات باعتقال كل من أبدى فرحه بالعملية على مواقع التواصل، وقد بات الاعتقال على خلفية الكتابة على موقع فيسبوك أمراً شائعاً مؤخراً تحت بند (التحريض).

لكن كل تلك الإجراءات ستبقى دون جدوى ما دام الاحتلال عاجزاً عن التنبؤ بمكان وزمان العملية التالية أو توقّع العنصر المنفّذ لها، ولعلّ هذا من أهمّ بركات هذا النمط من العمليات.