السبت، 21 مارس 2015

"أملي أن يرضى الله عنّي"



"أملي أن يرضى الله عنّي"
لمى خاطر


 
حين لخّص مبتغاه بالقول: "أملي أن يرضى الله عني"، كان الإمام الشهيد أحمد ياسين، رحمه الله، يقدّم رسالة عميقة حول سموّ الأهداف، وجوهر الغاية النهائية للإنسان المسلم.

فالياسين لم يكن مجاهداً فقط، بل كان داعية ومفكّراً ينظر إلى مدى أبعد من معطيات اللحظة الراهنة، وهي إشارة إلى ضرورة أن يكون سقف تطلعات المسلم عالياً لا محصوراً داخل حدود تناسب غيره وتتنافى مع رسالته الكلية، لأن تقاطع الأهداف المرحلية للمسلم الحركي مع أهداف غيره ممن يقاسمونه هماً مشتركاً أو قضية وطنية لا يعني أن ينسلخ عن غايته البعيدة أو يحاكي خطاب غيره مسقطاً تمايزه وشمولية رؤيته.

ولذلك، فهم الياسين (رحمه الله) أن دوره الجهادي جزء لا ينفصل عن منظومته الفكرية الأوسع والأشمل، فالجهاد إلى جانب كونه ذروة سنام الإسلام فإنه من أبواب القربى لله تعالى، فليس مثلُ الجهاد مربيّا ومنقيّا ورابطاً القلب والعقل بغاية الإنسان الكبرى ودوره الوظيفي في هذه الحياة، التي تعدّ في جوهرها درباً مفضياً إلى الآخرة، لكنه درب متعب وتكتنفه مشقة عالية، لمن اختار أن يسير فيه كما ينبغي وكما هو مطلوب منه وفق المفهوم الرسالي للحياة.

الجهاد؛ بات الفريضة الغائبة في أيامنا هذه عن وعي كثيرين، ممن يظنون الإسلام جملة من الشعائر والأخلاق والتعاملات فقط، وأن النهضة والتحرر ممكنين دون قتال ومدافعة، ودون دماء وتضحيات، ذلك أنهم فهموا أو تخيروا من دينهم ما يناسب همّتهم وطاقتهم وحسب، وغفلوا عن ذلك الجانب المهم الذي يترتب عليه أذى ودماء، لدرجة أن المتابع لكثير مما يكتب ويقال على لسان دعاة ومفكرين إسلاميين يهوله مدى غياب آيات القتال واضحة الدلالة عن تداولهم وتناولهم، فيما ينبري فريق آخر إلى تمييع كثير من المفاهيم الجهادية ومسخها، لأن هذا ما يوافق هواه أو يتقاطع مع طموحه. رغم أنه يسع المرء أن يقرّ بتقصيره أو قعوده  أو تواضع غاياته، ولكن دون أن يلبّس على الناس المفاهيم ويقدّم تلك الأفكار لهم على أنها أصل الإسلام ومقاصد شريعته.

في الجانب المقابل، كان المثال الذي سطّره الشيخ الشهيد أحمد ياسين بحياته وجهاده وأسره ثم شهادته مفعماً بآيات إقامة الحجة على كل قاعد ومتخاذل أو متذرّع بالعجز، ذلك أن العجز الجسدي شبه الكامل لم يَحُل بين الشيخ وبين قيامه بواجباته ومسؤولياته، ولا بين بنائه تنظيماً واسعاً يشكّل الجهاد دعامته الممتدة، وهو كان ذا دور ريادي في هذا البناء يتجاوز مفهوم المهمة الروحية أو التوجيهية، ولذلك أدرك المحتلّ أكثر من غيره تلك القيمة الوافرة التي يجسّدها حضور الشيخ في واقع حماس وفلسطين والأمة، فاختار اغتياله والخلاص منه رغم أن الشيخ كان في أصعب حالة صحية في أواخر أيامه، وكان المقربون منه يتوقعون له ميتةً طبيعية بعد اشتداد المرض عليه.

أقبل الياسين في ذلك الفجر على الشهادة ولم ينتظر أن يأتيه الصاروخ في مكان مغلق وآمن، فالشيخ الذي نشأ وعاش وجاهد بين الناس وقريباً منهم، قضى بينهم كذلك، وفي ميدان مفتوح يقرّ كل جدار فيه بفضل الشيخ وقيمته وعظمة عطائه.

(أملي أن يرضى الله عني) ليست عبارة بسيطة كما قد يراها من يقرأ أن الشيخ جعلها أمنيته وغايته وهدفه، غير أنه (رحمه الله) على عظم ما قدّم وبذل في سبيل فكرته اختار أن يلخّص جوهر مسيرته بهذه العبارة، لكي يربط الأفئدة بغاياتها السامية، ويحرر العقول والقلوب من محدودية الأفق إلى سعة الإدراك، ويصوّب أنظارها إلى أصل الوجود وفصله دون تعقيد أو فلسفة، فكل ما دنا عن تلك الغاية السامية يظل فعلاً بشرياً قاصراً حتى وإن كان في مضمونه عظيماً ومبهرا.

الخميس، 12 مارس 2015

كلمة على هامش المواجهة



كلمة على هامش المواجهة
لمى خاطر

ثمّة أمر مشترك في جميع مواجهاتنا مع أجهزة السلطة من اقتحام واعتقال وملاحقات، وهو تعمّد ضباط المخابرات التركيز على قضية (المرأة المتمرّدة التي لا يقدر زوجها وأقاربها على تكسير رأسها)!

وهم بطبيعة الحال يستخدمون ذلك في محاولة لاستفزاز رجولة الرجال (زوجي وأقاربي وأقاربه) حين يكررون أمامهم مقولات من طراز: "لو كنتم رجالاً لما سمحتم لامرأة أن تجلب لكم وجع الرأس هذا" "ولو كنتم رجالاً لأدبتموها" "ولو كنتم رجالاً لما سمحتم لها بأن تقول وتفعل ما تريد" "ولو أنها زوجتي لكسرت رأسها".

هذا النمط من التخلّف والوقاحة تكرر عشرات المرات منذ أوّل مواجهة لنا مع السلطة، لأن هؤلاء المتخلّفين لم يستوعبوا بعد معنى الرجولة الحقّة، وأنها لا تكون بفرد العضلات على النساء والاستقواء عليهنّ لاتقاء غضبة زعران الأجهزة الأمنية، رغم أن مجتمعنا طافح بالنماذج السلبية التي تقمع نشاط المرأة ورأيها إن كان سيترتب عليهما أذى وملاحقة لدى السلطة أو الاحتلال.

وهنا، إلى جانب تسجيل احتقاري لأشباه الرجال وممسوخي الفكر وعديمي الشهامة، أسجّل دائماً تقديري الوافر لزوجي الغالي، واعتزازي الكبير به، ليس فقط لشجاعته وتحمّله ضريبة مواقفنا دونما تذمّر، بل لأنه يقدّم في كلّ مرة ترجمة عملية لمحبته ورجولته وعطائه، إلى جانب فهمه لدور المرأة صاحبة الرسالة وتقديره إياه، ومنحها مساحةً لا يحدّها الخوف وعُقَد المجتمع، لتؤكد مواقفها وتمضي في طريقها الذي اختارته.

هذا المثال المتقدّم من الشهامة يندر أن نجدَ كثيراً منه، ليس فقط بسبب ما يترتب عليه من أثمان، بل كذلك لأن ثمة عقداً نفسية واجتماعيةً لدى كثير من رجال المجتمع تحول بينهم وبين دعم المرأة صاحبة الرسالة ومساندتها، كما أنها تؤدي تلقائياً إلى الوقوف في طريقها وقمعها. مع أننا نجد في المقابل نماذج كثيرة لنساء يصبرن ويتحملن الضريبة التي تترتب على مواقف أزواجهن أو أبنائهن، مع فارق أن هذه الحالة يراها المجتمع (في الغالب) واجباً على المرأة لا مواقف تستحق التقدير.

كلمة أخيرة لمحمود عباس:
بدل أن تلقي خطاباً في يوم المرأة تبدي فيه مرونة زائدة تجاه المواقع التي يجب أن تشغلها المرأة في المجتمع وتدعي وقوفك إلى جانب حقوقها، عليك أولاً أن تعلّم قادة وعناصر أجهزتك الأدب، الأدب مع المرأة حين تكون خصماً سياسياً لهم، ومع الرجال في محيطها. 

وإن كان لا بد لهم من مواجهتها، فلتكن مواجهة أخلاقية على أقل تقدير، أما الإساءة لها من منطلق كونها أمرأة، وللرجال في محيطها على طريقة أجهزتك الأمنية فهو مؤشّر انحطاط فكري ونفسي كبيرين، ومؤشّر كذلك على أن رجالك في الأصل لا يتعاملون مع المرأة إلا كجارية أو جزء من المتاع، وهو أمر يبدو مفهوماً من سلطة تقول ولا تفعل، وتفعل كل ما يشينها ويهينها.

الثلاثاء، 3 مارس 2015

غزة والهجوم المحتمل، والجدل بشأنه



غزة والهجوم المحتمل، والجدل بشأنه
لمى خاطر

تنقسم الآراء بشأن توقّع هجوم لنظام الانقلاب المصري على غزة، بين متوقّع ومستبعِد، وبين مطالبٍ المقاومةَ وكتائب القسام بضبط النفس، وداعٍ إلى الرد على من يبدأ غزة بعدوانه، بغض النظر عن هويته.

وبداية، ففي المرحلة الحالية لا يصحّ التهوين من التهديد أو تفسيره على محمل واحد فقط يستبعد حدوثه، لأسباب تبدو منطقية لطارحها، لكنها لن تكون واردةً أبداً في اعتبارات نظام مجرم اعتدى على شعبه وقتل آلافاً منه ونفّذ مجازر في سيناء، ثم دمّر مدينة رفح المصرية بهدف إقامة منطقة عازلة بين حدوده وغزة، ثم نفّذ مؤخراً سلسلة هجمات على ليبيا، وحصدت أرواح عشرات المدنيين.

إنما ينبغي استنفاذ جميع الجهود السياسية لمنع عدوان السيسي على غزة والتحذير من مآلاته، ولكن إن وقع الاعتداء، لا بدّ أن يكون الردّ حاضراً ومُعدّاً ومدروسا.

بعض العقلاء يزيّنون لمحاسن عدم الرد من باب ضرورة إبقاء البوصلة منضبطة تجاه الاحتلال، وهو رأي رغم ما فيه من وجاهة إلا أنه لا يجيب على سؤال: ماذا لو توسع العدوان حتى تجريد المقاومة من سلاحها وضرب منشآتها؟ أي مقاومة تلك يمكن أن تنهض بعدها لتضرب الاحتلال وتستأنف مسيرتها؟ وماذا سيغني عنها انضباطها السابق حينها؟ وبماذا ستفيدها نصيحة (منع الإعلام من استغلال ردّها لتشويه صورتها) بعد أن تفقد عتادها وتُنهك قواها؟

من يعتقد أن السكوت عن عدوان السيسي ينبغي أن يكون مقدماً على رد العدوان حتى لو تسبب عدوانه بتدمير المقاومة، نحيله لواقع الضفة الغربية لرؤية حجم الكوارث التي جلبها غياب السلاح وتصفية كوادر المقاومة، فالمعركة مع الاحتلال يلزمها سلاح وليس أُمنيات ونظريات صماء حول إنهاء الاحتلال بأدوات أخرى .

من جهة أخرى، مهم أن تعي حماس بأن السيسي لا يريد توجيه ضربة محدودة لها بل تحطيم قوتها العسكرية، لذلك فالتهاون سيجلب كوارث أضعاف ما سيجلبه رد العدوان، فقوة حماس يدركها الصهاينة كما كل أدواتهم في المنطقة، خصوصا أنها باتت الوحيدة التي تواجه الكيان في ظل تحول حركات كانت محسوبة على المقاومة إلى بيادق في أيدي المجرمين والطغاة في المنطقة العربية.

التهديد الذي تتعرض له غزة لا يحتمل النصائح المبنية على الرغائب، بل تقدير الخطر المترتب على الهجوم كما ينبغي، ذلك أنه من الطبيعي أن يضرب الاحتلال غزة بذراع الانقلاب في مصر كون ضرباته هو ستجلب تعاطفاً كاسحاً لحركة حماس من كل أحرار العالم، كما حدث خلال الحرب الأخيرة، بينما هجوم الجيش المصري سيتم تأويله من قبل كثير من المدلّسين بأنه نابع من اختلاف نظام الانقلاب مع تنظيم الإخوان وخلفية حماس الإخوانية، أضف لذلك أنه من الطبيعي أن تكون حماس هي واجهة هذا العدوان وليس غيرها من الفصائل، لأن ضرب حماس مبرراته جاهزة ويلوكها ويعتنقها كثير من أوغاد الأمة ومنافقيها، إضافة إلى أن ضرب رأس الحربة سيضعف جميع تشكيلاتها الأصغر، لاسيما وأن هذه التشكيلات والفصائل استفادت من دعم حماس للمقاومة وإسنادها عمليةَ تسليحها وتنمية عتادها وخبراتها في غزة، وهو أمر ما كان ليكون لو أن سلطة عباس هي الحاكمة في غزة، ومجددا نستشهد بوضع الضفة والمجزرة بحق المقاومة فيها والتي أضعفت حماس كما أضعفت غيرها من الفصائل المعتنقة منهج المقاومة، حتى تلك التي لا تعدّ خصماً لحركة فتح.

ومهم أيضا أن تعي حماس بأن التهاون في رد العدوان عليها سيحول غزة تلقائيا إلى حاضنة لتنظيم الدولة، خصوصا إن أدى العدوان إلى تهشيم قوة المقاومة، لأن إملاءات الظلم المطلق مع الامتناع عن التعامل معه بالدفاع عن النفس سينقل الأشدّاء من العناصر مباشرة من مربع القهر إلى مربع العنف المطلق، وهو أمر ينبغي التمعّن بمآلاته جيدا.

التعامل مع من يستهدف المقاومة لذاتها لا ينبغي أن يختلف عن التعامل مع المحتل الذي يحاربها للسبب ذاته، فالنوايا الحسنة لا مكان لها في معادلة القوة، وكما يقول الشاعر:
" إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا.. فما حيلة المضطر إلا ركوبها"

كلنا ثقة بكتائب القسام وبصوابية رؤيتها، لأن قادتها وجندها تشكلت هممهم وعزائمهم في خنادق المقاومة والجهاد، وكثيراً ما يبصر المجاهد ما لا يبصره غيره، مثلما أنه يدرك خطر تحطيم القوة كما لا يدركه غيره، ومن عرف طعم العزة في ظلّ البنادق لن يسمح لأية قوّة في الأرض بأن تجرّده إياها، مهما كلّف الأمر.