"أملي أن يرضى الله عنّي"
لمى خاطر
حين لخّص مبتغاه بالقول: "أملي أن يرضى الله عني"، كان الإمام الشهيد أحمد ياسين، رحمه الله، يقدّم رسالة عميقة حول سموّ الأهداف، وجوهر الغاية النهائية للإنسان المسلم.
فالياسين لم يكن مجاهداً فقط، بل كان داعية ومفكّراً ينظر إلى مدى أبعد من معطيات اللحظة الراهنة، وهي إشارة إلى ضرورة أن يكون سقف تطلعات المسلم عالياً لا محصوراً داخل حدود تناسب غيره وتتنافى مع رسالته الكلية، لأن تقاطع الأهداف المرحلية للمسلم الحركي مع أهداف غيره ممن يقاسمونه هماً مشتركاً أو قضية وطنية لا يعني أن ينسلخ عن غايته البعيدة أو يحاكي خطاب غيره مسقطاً تمايزه وشمولية رؤيته.
ولذلك، فهم الياسين (رحمه الله) أن دوره الجهادي جزء لا ينفصل عن
منظومته الفكرية الأوسع والأشمل، فالجهاد إلى جانب كونه ذروة سنام الإسلام فإنه من
أبواب القربى لله تعالى، فليس مثلُ الجهاد مربيّا ومنقيّا ورابطاً القلب والعقل
بغاية الإنسان الكبرى ودوره الوظيفي في هذه الحياة، التي تعدّ في جوهرها درباً
مفضياً إلى الآخرة، لكنه درب متعب وتكتنفه مشقة عالية، لمن اختار أن يسير فيه كما
ينبغي وكما هو مطلوب منه وفق المفهوم الرسالي للحياة.
الجهاد؛ بات الفريضة الغائبة في أيامنا هذه عن وعي كثيرين، ممن يظنون
الإسلام جملة من الشعائر والأخلاق والتعاملات فقط، وأن النهضة والتحرر ممكنين دون
قتال ومدافعة، ودون دماء وتضحيات، ذلك أنهم فهموا أو تخيروا من دينهم ما يناسب
همّتهم وطاقتهم وحسب، وغفلوا عن ذلك الجانب المهم الذي يترتب عليه أذى ودماء،
لدرجة أن المتابع لكثير مما يكتب ويقال على لسان دعاة ومفكرين إسلاميين يهوله مدى
غياب آيات القتال واضحة الدلالة عن تداولهم وتناولهم، فيما ينبري فريق آخر إلى
تمييع كثير من المفاهيم الجهادية ومسخها، لأن هذا ما يوافق هواه أو يتقاطع مع
طموحه. رغم أنه يسع المرء أن يقرّ بتقصيره أو قعوده أو تواضع غاياته، ولكن دون أن يلبّس على الناس المفاهيم
ويقدّم تلك الأفكار لهم على أنها أصل الإسلام ومقاصد شريعته.
في الجانب المقابل، كان المثال الذي سطّره الشيخ الشهيد أحمد ياسين
بحياته وجهاده وأسره ثم شهادته مفعماً بآيات إقامة الحجة على كل قاعد ومتخاذل أو
متذرّع بالعجز، ذلك أن العجز الجسدي شبه الكامل لم يَحُل بين الشيخ وبين قيامه
بواجباته ومسؤولياته، ولا بين بنائه تنظيماً واسعاً يشكّل الجهاد دعامته الممتدة،
وهو كان ذا دور ريادي في هذا البناء يتجاوز مفهوم المهمة الروحية أو التوجيهية، ولذلك
أدرك المحتلّ أكثر من غيره تلك القيمة الوافرة التي يجسّدها حضور الشيخ في واقع
حماس وفلسطين والأمة، فاختار اغتياله والخلاص منه رغم أن الشيخ كان في أصعب حالة
صحية في أواخر أيامه، وكان المقربون منه يتوقعون له ميتةً طبيعية بعد اشتداد المرض
عليه.
أقبل الياسين في ذلك الفجر على الشهادة ولم ينتظر أن يأتيه الصاروخ في
مكان مغلق وآمن، فالشيخ الذي نشأ وعاش وجاهد بين الناس وقريباً منهم، قضى بينهم
كذلك، وفي ميدان مفتوح يقرّ كل جدار فيه بفضل الشيخ وقيمته وعظمة عطائه.
(أملي أن يرضى الله عني) ليست عبارة بسيطة كما قد يراها من يقرأ أن
الشيخ جعلها أمنيته وغايته وهدفه، غير أنه (رحمه الله) على عظم ما قدّم وبذل في
سبيل فكرته اختار أن يلخّص جوهر مسيرته بهذه العبارة، لكي يربط الأفئدة بغاياتها
السامية، ويحرر العقول والقلوب من محدودية الأفق إلى سعة الإدراك، ويصوّب أنظارها
إلى أصل الوجود وفصله دون تعقيد أو فلسفة، فكل ما دنا عن تلك الغاية السامية يظل
فعلاً بشرياً قاصراً حتى وإن كان في مضمونه عظيماً ومبهرا.