الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

متى يكون الفنّ مقاوما؟



متى يكون الفنّ مقاوما؟
لمى خاطر


قبل نحو أسبوعين ثارت ضجة من السخرية حول مؤتمر نظّمه مهرجان رام الله للرقص المعاصر في مدينة رام الله تحت عنوان (الرقص كمقاومة)، وتضمّن "حلقات نقاش دورية حول دور الرقص في مجتمعنا الفلسطيني وفي النضال الوطني والمقاومة"، على حدّ تعبير القائمين عليه. والحقيقة أن الأمر يستحقّ أكثر من السخرية، ليس فقط بسبب إقحام المقاومة في شأن لا يمتّ لها بصلة كالرقص، إنما لما فيه من متاجرة رخيصة بقيم المقاومة والنضال، لاسيما في ظلّ انتفاضة قائمة على الأرض من خلال عملياتها شبه اليومية، وما تخلّفه من دماء وشهداء.

وهنا، رغم وضوح المهزلة والانتهازية في عنوان المؤتمر وتوقيته، إلا أننا وجدنا عدداً من النخب الإعلامية والثقافية تباركه وتدافع عن فكرته، في مقابل مبالغات من مهاجميه في الحديث عنه، وكأنه مصيبتنا الوحيدة، وطنياً وأخلاقيا، فيما هو مجرد مؤتمر لا وزن له ينظّم في غرف مغلقة ومعزولة لا تؤثر على الواقع خارجها، ولا يصلها لهيب المقاومة الحقيقي على أرض الواقع.

في مقابل ذلك ثمّة ظواهر فنيّة لافتة في هذه الانتفاضة استحقت بجدارة حيازة لقب (الفنّ المقاوم) تطبيقاً وليس شعارا، وحقيقة وليست مبالغات. وسأتناول هنا عملين فنيين فقط، رغم يقيني بوجود أعمال أخرى قديمة وحديثة تستحقّ التنويه بها والإشادة بدورها التعبوي في سياق العمل المقاوم.

الأول هو أنشودة (أخت المرجلة) التي أنتجتها فرقة الوفاء للفن الإسلامي في غزة، وخرجت إلى النور قبيل اندلاع هذه الانتفاضة، وكان محورها دور المرابطات في ساحات الأقصى، وما يتعرضن له من ملاحقات وانتهاكات من قبل الاحتلال، وقد لمسنا بوضوح أثرها الميداني الكبير في بداية الانتفاضة وكيف أشعلت النخوة لدى عدد كبير من الشباب، وحازت شهرة واسعة، حتى غدت أيقونة الانتفاضة خصوصاً في بداياتها.

أما العمل الثاني فهو أنشودة (عشاق الطعن) لفريق غرباء اللبناني، التي تم إطلاقها بعد اندلاع الانتفاضة بمدة قصيرة، وفيها إشادة بمنفذي عدد من العمليات بأسمائهم، أما تأثيرها في الوعي والميدان فقد فاق كلّ التوقعات، وغدت أنشودة الانتفاضة الثالثة بلا منازع، وكأنّ هناك سحراً خاصاً في كلماتها وألحانها وأصوات منشديها، فلا تكاد تمرّ في أسواق وشوارع الضفة الغربية دون سماعها، ويكفي ملاحظة حجم محبة ذوي الشهداء لهذه الأنشودة وسماع الكبير والصغير لها لنتعرف على قدر التأثير الذي صنعته معنوياً ووجدانيا، أما ميدانياً فلعلّ نشر عدد من شهداء الانتفاضة للأنشودة على صفحاتهم على مواقع التواصل قبل استشهادهم يبيّن أن أثرها تجاوز العامل المعنوي إلى العامل التحريضي، وكأنها غدت من بواعث الفعل المقاوم، ومن ركائزه المهمة. ولهذا تُواجه بالحذف المتكرر عن موقع يوتيوب وصفحات فيسبوك.

ولسنا نبالغ هنا حين نصف مثل هذه الأعمال وغيرها بالفن المقاوم، لأنه فنّ لا يبتغي المتاجرة ولا مسايرة الموجات النضالية ولا تسجيل عمل لرفع العتب والحفاظ على الجمهور، إنما هو فنّ يعبّر عن رسالته بوضوح ودون مواربة، ولا يكيّف نفسه لتلافي اتهامات الإرهاب والتحريض ونحوهما، ولا يجمّل الزيف أو يزور الحقيقة، ولذلك ينجح في اختراق العقول والقلوب، وتعبئة النفسيات وشحنها للفعل، ويواسي آلام ذوي الشهداء والجرحى. فكما أن المقاومة لا تحتمل المسارات المائعة والضبابية، فكذلك الفنّ المواكب لها والمحسوب عليها، أما أيّ عمل يقحم نفسه قسراً على المقاومة وظواهرها فلنا أن نسميه أي شيء يتعلق بهوامش الفعل، ولكن ليس صميم الفعل نفسه.

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2015

جدلياتنا التي لا تنتهي




جدلياتنا التي لا تنتهي
لمى خاطر

لم تكد تمضي بضعة أيام على انطلاق هذه الهبة الجماهيرية في الضفة الغربية والقدس حتى انشغل كثيرون بطرح جدليات قديمة حديثة، تارة حول جدوى العمل الشعبي المنظم ورغبة كثيرين بأن تظل الفصائل بمنأى عن توجيه وتصعيد هذه الهبة، وتارة حول ما يسمى بعسكرة الانتفاضة، وتحذير كثيرين أيضاً من هذا الخيار.

ودائماً سنجد من يملك سعة من الوقت للطروحات الرغائبية أو من يلجأ لفرض ظواهر ومعطيات غير موجودة أصلاً على أرض الواقع، مثل الادعاء بأن هذه انتفاضة بعيدة عن جمهور التنظيمات ودعمها، وأن قوامها شباب غير مسيّس، فيما الواقع على الأرض يقول شيئاً آخر. فمع الإقرار بأن جمهور هذه الحالة النضالية لا يقتصر على جمهور الفصائل الفلسطينية وقد انخرط فيها شباب بدوافع ذاتية، إلا أننا لا يجوز أن نغفل أن الحراكات المنظمة من شأنها أن تضمن استمرار وتصعيد الأحداث، وهو ما شاهدناه عملياً حين حملت الحركة الطلابية بمختلف أطيافها جانباً كبيراً من عبء المواجهات الشعبية، ذلك أن النّفَس الشعبي التلقائي وغير الموجه قصير في الغالب ولا يمكنه تشكيل حالة دائمة من الاشتباك اليومي، ومن هنا نرى أن الفصائل المقاومة كانت العمود الفقري لديمومة الانتفاضتين السابقتين، مثلما أنها الآن في قلب هذا الحراك، وهناك فرق كبير بين أن يضخّ التنظيم أنصاره للمشاركة الفاعلة في الفعل الشعبي وبين أن يحاول فرض وصايته على الحراك وتجييره لصالحه، فالأول مطلوب لضمان التصعيد، والثاني مرفوض لأن فيه نزعة احتكار ووصاية لا يملك فصيل حيازتها لنفسه.

أما فيما يخصّ الفعل المسلح، فلا بدّ من تذكير من يرون في عسكرة الانتفاضة وصفة تخريب للفعل الشعبي بأن هذا الفعل المتصاعد منذ أيام انطلق أصلاً على وقع عمليتين عسكريتين متتاليتين: الأولى عملية بيت فوريك البطولية التي نفذها القسام في شمال الضفة في الأول من شهر تشرين الأول، والثانية عملية الطعن التي نفذها مهند حلبي في القدس بعدها بيوم.

والأهم من ذلك أنه لو تبنى كل الجمهور الفلسطيني الرأي القائل بضرورة الحفاظ على النمط الشعبي للمواجهة فهذا لن يغيّر شيئاً في قناعة القادرين على العمل العسكري، فهم يرون فيه خياراً مجدياً وقادراً على تحقيق ردع الاحتلال ومستوطنيه، رغم ضريبته العالية، وهي ضريبة مفهومة في إطار عملية التحرير أو مقاومة الاحتلال.
الفعل الشعبي لا يتناقض مع العمل العسكري، لكل مسار أهميته وميزاته وضروراته، نحن فقط من نملك ترف الهلع والتحذير من مآلات العمل العسكري، رغم أنه لو تمكن من فرض نفسه بقوة على الساحة فسيغيّر كثيراً من المعادلات وملامح المرحلة 
.
في النهاية، ليست هناك انتفاضة أو ثورة تساير رغبات أحد، بل إن ما يحدد خط مسارها وتطورها هو إرادة ومقدرة القادرين على الفعل، عسكرياً كان أم شعبيا. ما يلزم فقط أن نحدد ما نريد؛ الخلاص من الاحتلال وإنجاز التحرير، أم تحسين ظروف حياتنا تحت الاحتلال ومراعاة مزاج العالم الذي لا يعبأ أصلاً بالحق الفلسطيني؟ ولعل من اختاروا مسارهم وفهموا دورهم قد أبصروا أهدافهم جيداً فكانت رصاصاتهم وسكاكينهم ملازمة لهذه الانتفاضة منذ بدايتها، حتى غدت سكين المقاوم أيقونتها ورمزها الأجمل والأكثر إرباكاً لأمن المحتل.

الأربعاء، 7 أكتوبر 2015

نخبة الانتفاضة الثالثة



نخبة الانتفاضة الثالثة
لمى خاطر


هكذا قضت طبيعة الأشياء في فلسطين؛ كلما مر شطر من السنوات يكبر خلاله جيل جديد ويستوي على سوقه فلن يلبث أن يشعل فتيل اللحظة المرجوّة، ويتّخذ موقعه في ساحة المواجهة متقدماً صفوفها، ومفاجئاً من راهن على انسحابيته ولامبالاته.

هذا الجيل الذي يتصدر اليوم حالة الحراك المتصاعد في القدس والضفة الغربية لم يكن قد شارك في الانتفاضتين السابقتين لأنه لم يكن قد ولد بعد، أو كان صغيرا، لكنه اليوم، كما الأجيال السابقة له ما زال يحمل نضارة الروح النضالية ويكتنز دوافع الإصرار والإقدام والثبات، فيقدّم فعلاً متنوع الأشكال وتصدر عنه شجاعة فائقة تتجلى في عمليات ينفذها بالسلاح الأبيض وفي صمود كبير في الشوارع أمام آلة القمع الصهيونية.

صحيح أننا هنا لا نعمم على جميع عناصر هذا الجيل، بل نتحدّث عن نخبته وصفوته، في وقت كان فيه كثيرون يرون أن عمليات تزييف الوعي وتبديل الثقافة المقاومة له قد آتت أكلها حتى أفسدته كلّه، ولم يعد يُرجى منه خير أو فعل مثمر، ولكن من قال إن الانطباعات الذاتية المبنية على رصد ظاهر الأمور أو جزء منها يمكن أن تؤسس لحالة تحليلية سليمة؟ ومن قال إن الأحداث الفارقة والمفاجئة قابلة للتوقع المسبق عن بعد أو قرب؟

ومع ذلك، فثمة إرهاصات عديدة سبقت هذه الحالة وأسست لها خلال آخر عامين في الضفة والقدس، وبلغت مرحلة ما قبل الذروة خلال العام الأخير، مع حادثة إحراق الطفل محمد أبو خضير على يد المستوطنين، ثم الحراك الميداني في الضفة على هامش حرب غزة، وكذلك الهبة التي تلت اقتحام الأقصى أواخر عام 2014، وصولاً إلى حادثة إحراق عائلة دوابشة، والتي أعقبها حالة مقاومة شعبية يومية، لكنها لم تكن شاملة ومتزامنة كحالها خلال الأيام الأخيرة، وتحديداً منذ اغتيال الشهيدة هديل الهشلمون ثم عملية نابلس وبعدها عملية الطعن التي نفذها البطل مهند حلبي.

إن نخبة هذه الهبة الجماهيرية الأخيرة من شأنها أن تقدّم كثيراً من الإنجازات المقاومة في حال نجحت في الخلوص إلى مرحلة اللاعودة وكسرت قيد إرهاب الاحتلال ومن بعده قيد التنسيق الأمني الذي لا يمكن تحييده إلا بتصاعد الفعل إلى درجة تصبح فيها حالة الحراك الجماهيري عصية على الاحتواء أو الإجهاض.

وهنا تبرز مسؤولية قوى المقاومة في الضفة والقدس التي تتطلّع لاستكمال وتصعيد مسيرتها المقاومة، وهذه المسؤولية تتوزع ما بين العمل على تصاعد الأحداث عبر تنظيم كثير من أشكالها وضخ تيارها البشري فيها، إضافة إلى استثمار الطاقات الشبابية الحية في فعل مقاوم مثمر ومستمر ومتصاعد ويتوافر على خبرات وكفاءات قتالية تبدو ساحة الضفة والقدس في أمس الحاجة إليها اليوم، ليس فقط لردع اعتداءات الاحتلال، بل كذلك لاستئناف مسيرة التحرير بعد سقوط جميع الخيارات السياسية البائسة بشكل مدوّ ومريع.

الثلاثاء، 22 سبتمبر 2015

ما لم ترصده الكاميرا



ما لم ترصده الكاميرا
لمى خاطر


ليس مستغرباً حدوث ضجة كبيرة بعد عرض الفيديو الذي أظهر عناصر أجهزة السلطة وهي تعتدي بالضرب المبرح على فتى فلسطيني في بيت لحم، خلال مشاركته في فعاليات نصرة المسجد الأقصى يوم الجمعة الماضي. مردّ موجة الاستنكار والغضب التي أعقبت نشر الفيديو ليس فقط وحشية الاعتداء، بل كذلك لأن سببه محاولات السلطة قمع جميع مظاهر نصرة المسجد الأقصى، في وقت يتعرض فيه الأخير لأخطار كبيرة، وهو ما يعني أن التحرك للذود عنه واجب ديني ووطني يجب ألا يقابَل بالمنع من أية جهة فلسطينية مهما كانت المبررات.

لكن هذه الحادثة لم تكن الوحيدة، وليست الأولى ولا الأخيرة، فنهج أجهزة السلطة في السنوات الأخيرة اقتضى تحوّلها إلى أداة قمع تنوب عن الاحتلال في التعامل مع الشارع الفلسطيني في الضفة لإجهاض بوادر تحركه في مناصرة أية قضية وطنية.

ولو استعرضنا سجّل السلطة القمعي (تحديداً خلال الأعوام الثمانية الأخيرة) فسنجده حافلاً بجميع أشكال القمع والانتهاك، وهو قمع لا يطال حماس فقط ونشاطها كتنظيم محظور، بل يتعدّاه للعدوان على كل تحرّك من شأنه أن يمسّ بأمن الاحتلال، وما قمع تظاهرات نصرة غزة في حرب الفرقان عنا بعيد، ومثله قمع فعاليات التضامن مع الأسرى الإداريين، والاعتداء على مظاهرات التضامن مع غزة ثم المسجد الأقصى العام الماضي، لدرجة أن إحدى تظاهرات نصرة الأقصى في الخليل أواخر عام 2014 تم قمعها من قبل الاحتلال وأجهزة السلطة في وقت واحد، وكان المتظاهرون لا يعرفون مصدر قنابل الغاز التي تتساقط عليهم يومها، إن كانت من الاحتلال أم السلطة. وفي يوم الجمعة الماضي في مدينة الخليل أيضاً كانت أجهزة السلطة تنصب الحواجز على مفترقات الطرق المؤدية إلى مكان انطلاق مظاهرة نصرة الأقصى، رغم أنها كانت في منطقة تماس مع الاحتلال وليست في مناطق السلطة، وتم احتجاز عدد من الشباب والاعتداء عليهم وإهانتهم ومصادرة جوالاتهم، لأن الهدف كان محاولة منع أكبر عدد من المواطنين من المشاركة في المظاهرة، وإبقاء التفاعل مع قضية الأقصى متواضعاً وبارداً ولا يؤسس لحراك مستمر، ستتضرر منه السلطة بقدر ما يتضرر الاحتلال.

ولذلك فإن محاولة التستر على هذه الجرائم عبر الادعاء بأن حادثة بيت لحم كانت فردية لن تسعف السلطة للتعمية على عارها المقيم، كلّ ما في الأمر أن اعتداء بيت لحم رصدته عين الكاميرا ووثقته ونجح في الخروج إلى العلن، مع العلم أن حوادث قمع كثيرة كان يتم توثيقها ثم تقوم أجهزة السلطة بمصادرة المواد التي تم تصويرها من كاميرات الصحفيين بعد اعتقالهم من مكان الحدث.

ورغم فداحة جريمة بيت لحم وغيرها، ما زلنا نجد من بين نخب الإعلاميين والكتاب والحقوقيين من يتماشى مع رواية السلطة ويسوّق لها محاولاً التخفيف من دلالاتها وتلميع وجه الأجهزة الأمنية في المقابل، عبر التأكيد على وطنية دورها، رغم أن واقعها يعاكس ذلك، منذ أن بات حفظ أمن الاحتلال الأولوية الوحيدة في عرفها.

ولكن لأن الشمس لا تُغطى بغربال فقد رأينا كيف أن ذلك الحدث كان له ما بعده من تطورات ميدانية عبر التظاهرات التي انطلقت ضد عباس وسلطته في بيت لحم، ورغم أنها ردة فعل محدودة لكنها تشي بأن دور السلطة بات مكشوفاً تماماً ولا يجدي في ستره التضليل الممنهج الذي تمارسه السلطة وأبواقها الإعلامية، والطريف أن السلطة حاولت تدارك الفضيحة بأن أوعزت للمدارس في الضفة بإخراج الطلاب أمس نصرةً للمسجد الأقصى، لكن بعضهم خرج ليهتف: "ارحل يا عباس"!

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

إلى أن يعود الاتصال في رفح



إلى أن يعود الاتصال في رفح
لمى خاطر


كان ذلك الوحي الإبداعي الذي اكتنف فيلم (رفح.. الاتصال مفقود) الذي بثته قناة الجزيرة قبل أيام ناطقاً برسائل عديدة، سيجتهد المعنيون في ترجمتها وفهم ما وراء رموزها، وكان القسامي الذي رافق فريق إعداد الفيلم إلى مسرح العملية شرق مدينة رفح كمن يقف على أرض صلبة قد حاز أسرارها وخصائصها، وبثّ بين جنبات الركام فيها حياة جديدة، حين عادت كتائبه لتفصح عن معلومة صغيرة، لكنها تفتح الباب أمام تأويلات شتّى لاحتمالات تطور الأحداث في ذلك اليوم، بعد خرق الاحتلال التهدئة ومباشرته بقصف همجي في رفح، حين تيقّن من اختفاء أحد جنوده (هدار جولدن).

أحسنت كتائب القسام يومها حين أعلنت في بيانها المقتضب فقدان الاتصال بالمجموعة التي اشتبكت مع وحدة من جيش الاحتلال، وأحسنت ثانياً حين أفرجت بعد عام عن معلومة يتيمة بذكاء ودهاء، وضمن سياق فيلم يصوّر همجية الاحتلال ويثبت اختراقه التهدئة بعد ساعتين من بدء سريانها، ولمجرد اكتشافه أن أحد جنوده كان قد اختفى قبل بدء موعد التهدئة.

خلص الفيلم الذي بثته قناة الجزيرة إلى أن السيناريو الأقرب لتلك اللحظات السابقة للقصف يشير إلى وقوع اشتباك استشهد على إثره القائد الميداني وليد توفيق مسعود وقتل اثنان من جنود الاحتلال. وكان مسعود يرتدي الزي العسكري الإسرائيلي، فظن الجيش الإسرائيلي أنه أحد جنوده ليكتشف بعد ساعتين أن ثمة جنديا مفقودا، ليبدأ القصف العنيف لرفح.

أما الخلاصات الأخرى فتؤكد أن القسام كان معنيّاً بإثارة غبار التشكيك حول روايته (فقدان الاتصال مع المجموعة) وهو ما سيحرّض المجتمع الصهيوني على مطالبة حكومته بالكشف عن مصير المفقودين من الجنود في حرب غزة، وكل هذا يؤكّد أن فاتورة حساب (العصف المأكول) ما تزال مفتوحة، وأن امتلاك كتائب القسام صندوقاً أسود من الأسرار (المتوقعة وغير المتوقعة) لا زال ورقة رابحة بيد حماس، حتى وإن بدا أن الاحتلال هو صاحب الكلمة الفصل في تقرير مصير غزة حرباً وسلما. لكنّه سيضطر لاحقاً لاستجلاب وسيط للتفاوض حول المعلومات ثم حول ما ينبني عليها، أي الرضوخ مجدداً لإملاءات المقاومة، والاضطرار لكسر مجموعة كبيرة أخرى من السلاسل، ومعها اللاءات الصهيونية المعروفة، والتي باتت حكومة الاحتلال تقتصد في إطلاقها، خلافاً لما كان عليه الحال بعد أسر شاليط.

في مرحلة قادمة سيكون التخوّف من خطف جنود الجيش الإسرائيلي صمام أمان لمنع أي اعتداء صهيوني جديد على غزة، وستكون لَسْعة الخيبة والمرارة (صهيونيا) مؤلمة لدرجة الاجتهاد في تأجيل حضور ذلك الهاجس والتأني قبل اتخاذ قرار جديد بشن حرب مدمرة أخرى على غزة، ولكن دون أن يعني ذلك أن الاحتلال سيغضّ الطرف عن تنامي ساعد المقاومة فيها.

لكن الاحتلال سيعلم أنه قد يدفع ثمنا مادياً ومعنوياً كبيراً لهذا الخيار، أي خيار المواجهة على جبهة غزة، والاقتراب من حدودها بريّا، مثلما يعلم أن المقاومة تطورت إلى درجة باتت قادرة فيها على تنفيذ عمليات أسر في ظل المعركة رغم كل احتياطاته لحماية جنوده أو حتى قتلهم إن تعرضوا للأسر.

وإلى أن يعود الاتصال مع المجموعة المجاهدة في أنفاق رفح، ستكون وحدات أخرى من نخبة القسام قد اتخذت مواضعها وتدرّبت على مفاجآت جديدة للجولة القادمة، وستكون جحافل من الرجال الأحرار قد انتظمت في طوابير طويلة، لتحوز حرّيتها، وتعبر إلى انعتاقها، من فوهة بندقية القسام ومن يقينها بعهوده واطمئنانها لمتانة جداره.