الاثنين، 25 مايو 2015

عن ذكرى الإضراب وما سيأتي



عن ذكرى الإضراب وما سيأتي
لمى خاطر


كان يمكن أن يمرّ كأي حدث عادي أو محطة غير مفصلية لولا تلك الأحداث الكبرى التي تخللته وأعقبته تدريجياً وصولاً إلى حرب العصف المأكول وما رشح عنها، وكان يمكن أن يُعدّ الإضراب الذي أخفق في تحقيق غاياته لولا ما تمخض عن تداعياته على المدى البعيد، وصولاً إلى صندوق الأسرار الأسود الذي يحتفظ بمفتاح الحرية لآلاف الأسرى في سجون الاحتلال.

إنه إضراب الأسرى الإداريين في سجون الاحتلال عام 2014، والذي نعيش اليوم ذكرى أيامه، وحيث يذكّرنا موقع التواصل (فيسبوك) بتفاصيل أيام الإضراب وهو يعرض يوميات الأعوام الماضية كل صباح لمستخدميه.

كانت ثلة من رموز المقاومة والصمود من أسرى الإداري داخل سجون الاحتلال قد عقدت العزم على خوضه على أمل النجاح في كسر سياسة الاعتقال الإداري الجائر الذي يأكل أعماراً دون حساب، ويفتك ببراعم المواجهة عبر استنزافه غير المنقطع لرموز التغيير والمقاومة داخل المجتمع الفلسطيني. وحدث أن كان توقيت الإضراب في ظرف ميداني صعب وغير معين على نجاحه، لا سيما في الضفة الغربية وهي الساحة التي ينتمي لها المضربون، فقد كان الواقع الميداني مجهداً وعقيماً ولم تكن في البداية ثمة مؤشرات على إمكانية حدوث نهضة ميدانية متضامنة قادرة على الضغط على المحتل وإرغامه على التجاوب مع مطالب المضربين.

ومع ذلك، التقطت حركة حماس في الضفة وقتها رسالة الواجب، وحملت على عاتقها مسؤولية تحريك الميدان نصرةً للأسرى، وبعد أمد من فعالياتها الميدانية المرافقة إضراب الأسرى تململت السلطة وأجهزتها الأمنية حين أزعجتها كثافة الحضور الميداني في نشاط حماس المؤازر للإضراب، فكان أن اتخذت السلطة قرارها بقمع حركة التضامن الميدانية خشيةً من تطور الأمور باتجاهات مزعجة بالنسبة لها ولكيان الاحتلال بطبيعة الحال.

لكن المفاجأة غير المتوقعة كانت عملية أسر المستوطنين في الخليل التي أذهلت السلطة بقدر ما أرغمتها على إيقاف حملتها الأمنية مؤقتاً نتيجة الانتهاكات الصهيونية الواسعة التي نُفذت بحق حركة حماس وعناصرها ومظاهر نشاطها في الضفة الغربية. وحين اضطر الأسرى المضربون لإيقاف إضرابهم نتيجة للتطورات الخارجية غير المتوقعة وما رافقها من قمع وتضييق داخل السجون، كانت جبهة الحرب في غزة تندفع باتجاه الانفجار، فتغيّر وجه المرحلة برمّته ودخلت الحرب أطوارها الأكثر شدة وحسماً ومفاجآت.

سقطت أهداف الحرب (إسرائيليا) حين عجزت عن تحقيق غاياتها، ورغم أن أهداف الحرب (فلسطينياً) لم تنجح في كسر الحصار، إلا أنها جلبت لساكني الزنازين الأمل بكسر حصارهم هم، فكانت في ملخّصها العام الحرب الجالبة أمل حرية الأسرى بعد عجز الإضراب عن الطعام عن تحقيقه، وعجز الحراك الميداني غير المؤلم للمحتل عن إرغامه على التنازل.

ولذلك، يمكننا اليوم أن نقيّم إضراب أسرى الإداري بآثاره الخارجية وليس إنجازاته الداخلية، فقد كان الشرارة التي حررت الأفق من ظلامه وجموده، فكان له ما بعده، مثلما أن حرب العصف المأكول سيكون لها ما بعدها، ولن تذهب الدماء والأرواح سدى، ومثلها صنيع المجاهدين واستثنائية بسالتهم، فما تزرعه البنادق لا يبور، ولن يُنسى، رغم قتامة الواقع وانغلاق سبل الخلاص في المدى المنظور.

الاثنين، 18 مايو 2015

حكم بالخلود وآخر بضرورة الحسم



حكم بالخلود وآخر بضرورة الحسم
لمى خاطر


ما كان حكم قضاء الانقلاب في مصر ليضير ثلة الشهداء المجاهدين الذين قضى بإعدامهم شيئا، أو ليحرّف التاريخ أو يزيّف الواقع، أو يفلح في إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، حيث استغفال الناس والاستخفاف بهم يتم بجرّة قلم أو بوصلة ردح على الفضائيات، تشكك في أن يكون القائد القسامي رائد العطار قد قضى في قصف صهيوني خلال حرب العصف المأكول منتصف العام الماضي.

حَكَم القضاء المصري بإعدام هذه الثلة الموزعة بين الشهادة والأسر في سجون الاحتلال، فحكم عليها بالخلود وعلى نفسه ونظامه بالعار الأبدي، وهو عار لن يفلح أي استدراك بمحوه، أو مداراة اجتهد ممثلو الوجه الآخر للعار من الفلسطينيين بإخراجها وهم يعلقون على أحكام الانقلاب بالتأكيد على نزاهة قضاء مصر! إنما تبدو هنا سبل التمايز أوضح مما سبق لتخطّ حكمها الخاص القاضي بأن الكيان الصهيوني ليس شوكة الاستعمار الوحيدة المزروعة في رحابنا، لأن ذيوله التي تضرب بقوسه وتتنفس هواء مصالحه ذاتها ليست إلا نسخة عنه، حتى وإن انتعلت وطنية مدعاة وأقنعت شطر الجمهور بشعاراتها. فأدوات الاستعمار في فلسطين والأمة ليست صهيونية الملامح وحسب، ولنا أن نتبيّن ملامحها مع تضافر مصالحها واجتماعها على مواجهة خصم واحد، وإن تنوعت الأساليب.

ليس فقط الحكم على مجاهدين فلسطينيين من يحيلنا إلى ضرورة فهم أصل الصراع داخل الأمة، بل كذلك سيل أحكام الإعدام التي طالت قيادات وكوادر إسلامية في مصر، رغم أن خصوم الانقلاب الذين يساقون إلى ساحات الإعدام لم يتبنوا غير مسارات النضال السلمي، وظلوا يرفضون عسكرة مسارهم الثوري ويلزمون قواعدهم بذلك، فكانت النتيجة أن دفعوا دمهم ثمن محاولاتهم الحفاظ على دماء من أجرموا بحقهم على مدار عقود وصولاً إلى مجزرة رابعة وأخواتها.

في مصر كما في غيرها من ساحات الأمة النازفة، وحيثما بطش الطغاة وأجرموا، تضيق المفاهيم الرومانسية للإصلاح والحكم ومثلها نظريات الشراكة والتوافق وتداول السلطة، تضيق حتى يندثر المؤمنون بها وتغدو مجرد تنظير مخملي على هامش المجازر، بل يصبح الترويج لها مجرد تعبير عن العجز وعقم المسارات ودنوّ الهمة وإضاعة مفتاح المواجهة، المواجهة التي ظل كثيرون من نخب الأمة يؤجلونها ويرونها باباً للفتنة، فيما ظل الطغاة ماضين في طريقهم الدموي وهم ينعمون بحسن ظن خصومهم ويراهنون على أن أخلاق هؤلاء الخصوم ستمنعهم من الإقدام على خطوة القصاص وردّ العدوان بالمثل، أو حسم القناعة باتجاه المواجهة والمفاصلة الواضحة.

ولكن من قال إن الاجتهادات البشرية نصوص مقدسة لا تتغير بتغير المعطيات وتطور الوقائع؟ ومن قال إن النضال السلمي وصفة نجاح أبدية بعد كل هذا الانهيار في بنيان الأمة التي ما زالت تقرع باب فجرها بأكفٍ دامية؟ ومن قال إن العدوان لن يفرز ردة الفعل المكافئة له والقادرة على نقل المراحل إلى مسارات جديدة؟

هناك دائماً من كان يبصر موضع مفتاح الخلاص منذ بداية عهده مع المواجهة، وهناك من أبصره بعد التجربة، وهناك من ظلّ يراهن على المفتاح الخاطئ حتى بعد أن تبيّن له ذلك، وهذا الأخير واجبه أن ينتقل اليوم إلى الظل، ويترك المسير تحت الشمس لمن حاز الإرادة وفهم أصل الصراع وكنه الأزمة في الأمة ومنطلق خلاصها. وعندها فقط سنتخفف كثيراً من شعورنا بالعجز كلّما سطا علينا الظلام ليطفئ نجوماً جديدة في سمائنا، لأن الدم الذي لا يذهب سُدى يزهر ويحث على الإقدام، بقدر ما يفرز الموت المجاني في المقابل يأساً وانسحاباً وقهرا.