حكم بالخلود وآخر بضرورة الحسم
لمى خاطر
ما كان حكم قضاء الانقلاب في مصر ليضير ثلة الشهداء المجاهدين الذين
قضى بإعدامهم شيئا، أو ليحرّف التاريخ أو يزيّف الواقع، أو يفلح في إعادة عقارب الزمن
إلى الوراء، حيث استغفال الناس والاستخفاف بهم يتم بجرّة قلم أو بوصلة ردح على
الفضائيات، تشكك في أن يكون القائد القسامي رائد العطار قد قضى في قصف صهيوني خلال
حرب العصف المأكول منتصف العام الماضي.
حَكَم القضاء المصري بإعدام هذه الثلة الموزعة بين الشهادة والأسر في
سجون الاحتلال، فحكم عليها بالخلود وعلى نفسه ونظامه بالعار الأبدي، وهو عار لن
يفلح أي استدراك بمحوه، أو مداراة اجتهد ممثلو الوجه الآخر للعار من الفلسطينيين
بإخراجها وهم يعلقون على أحكام الانقلاب بالتأكيد على نزاهة قضاء مصر! إنما تبدو
هنا سبل التمايز أوضح مما سبق لتخطّ حكمها الخاص القاضي بأن الكيان الصهيوني ليس
شوكة الاستعمار الوحيدة المزروعة في رحابنا، لأن ذيوله التي تضرب بقوسه وتتنفس
هواء مصالحه ذاتها ليست إلا نسخة عنه، حتى وإن انتعلت وطنية مدعاة وأقنعت شطر
الجمهور بشعاراتها. فأدوات الاستعمار في فلسطين والأمة ليست صهيونية الملامح وحسب،
ولنا أن نتبيّن ملامحها مع تضافر مصالحها واجتماعها على مواجهة خصم واحد، وإن
تنوعت الأساليب.
ليس فقط الحكم على مجاهدين فلسطينيين من يحيلنا إلى ضرورة فهم أصل
الصراع داخل الأمة، بل كذلك سيل أحكام الإعدام التي طالت قيادات وكوادر إسلامية في
مصر، رغم أن خصوم الانقلاب الذين يساقون إلى ساحات الإعدام لم يتبنوا غير مسارات
النضال السلمي، وظلوا يرفضون عسكرة مسارهم الثوري ويلزمون قواعدهم بذلك، فكانت
النتيجة أن دفعوا دمهم ثمن محاولاتهم الحفاظ على دماء من أجرموا بحقهم على مدار
عقود وصولاً إلى مجزرة رابعة وأخواتها.
في مصر كما في غيرها من ساحات الأمة النازفة، وحيثما بطش الطغاة
وأجرموا، تضيق المفاهيم الرومانسية للإصلاح والحكم ومثلها نظريات الشراكة والتوافق
وتداول السلطة، تضيق حتى يندثر المؤمنون بها وتغدو مجرد تنظير مخملي على هامش
المجازر، بل يصبح الترويج لها مجرد تعبير عن العجز وعقم المسارات ودنوّ الهمة
وإضاعة مفتاح المواجهة، المواجهة التي ظل كثيرون من نخب الأمة يؤجلونها ويرونها
باباً للفتنة، فيما ظل الطغاة ماضين في طريقهم الدموي وهم ينعمون بحسن ظن خصومهم
ويراهنون على أن أخلاق هؤلاء الخصوم ستمنعهم من الإقدام على خطوة القصاص وردّ
العدوان بالمثل، أو حسم القناعة باتجاه المواجهة والمفاصلة الواضحة.
ولكن من قال إن الاجتهادات البشرية نصوص مقدسة لا تتغير بتغير
المعطيات وتطور الوقائع؟ ومن قال إن النضال السلمي وصفة نجاح أبدية بعد كل هذا
الانهيار في بنيان الأمة التي ما زالت تقرع باب فجرها بأكفٍ دامية؟ ومن قال إن
العدوان لن يفرز ردة الفعل المكافئة له والقادرة على نقل المراحل إلى مسارات
جديدة؟
هناك دائماً من كان يبصر موضع مفتاح الخلاص منذ بداية عهده مع المواجهة،
وهناك من أبصره بعد التجربة، وهناك من ظلّ يراهن على المفتاح الخاطئ حتى بعد أن
تبيّن له ذلك، وهذا الأخير واجبه أن ينتقل اليوم إلى الظل، ويترك المسير تحت الشمس
لمن حاز الإرادة وفهم أصل الصراع وكنه الأزمة في الأمة ومنطلق خلاصها. وعندها فقط
سنتخفف كثيراً من شعورنا بالعجز كلّما سطا علينا الظلام ليطفئ نجوماً جديدة في
سمائنا، لأن الدم الذي لا يذهب سُدى يزهر ويحث على الإقدام، بقدر ما يفرز الموت
المجاني في المقابل يأساً وانسحاباً وقهرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق