الثلاثاء، 23 يونيو 2015

تتوقف المقاومة عند زوال مبررها



تتوقف المقاومة عند زوال مبررها
لمى خاطر


لا نبالغ إن قلنا إن حماس المجتمع الرازح تحت الاحتلال لمجابهته يتناقص غالباً مع مرور الوقت، وحين تمرّ عقود دون تحرير، وحين يصبح وجود الاحتلال جزءاً من المألوف، أو حين تنشأ أجيال جديدة والاحتلال قائم في واقعها، ولم تعايش ما قبله، أو تعاين حجم ما سُلب منها، ماديا ومعنويا.

وليس غريباً أن تفرز حالة الجمود في الواقع الفلسطيني تبرّماً من أعمال المقاومة (المتباعدة زمنياً) لدى فريق من الجمهور تضاءلت غاياته لتغدو مجرد الحفاظ على الاستقرار المشوّه والهشّ والانفراجات الحياتية التي يقدّمها المحتل من حين لآخر، والتي تبدو لهذا الفريق مكتسباً كبيراً يستحق أن تؤجّل المقاومة لأجله أو تصنّف كخيار جالب للخسارة.

ومع إدراك أن أي مجتمع أو شعب لا يمكن أن يكون على قلب رجل واحد، في الفهم والقناعات والاستعداد لتحمّل تكاليف مواجهة محتليه، إلا أن ما نلاحظه من فتور (بغض النظر عن حجمه) في الساحة الفلسطينية ليس مردّه هذه المسلّمة وحسب، وباستعراض للمراحل الفلسطينية المعاصرة نجد أن السلطة المنبثقة عن اتفاق أوسلو لعبت دوراً محورياً في تمييع المفاهيم الوطنية وإفراغها من مضمونها، بل وفي تجريم المقاومة وإقحامها في جدليات العبثية والمسارات المهلكة، وكل ذلك يتم تحت تلك اللافتة المضللة (المصلحة الوطنية العليا)، وصولاً إلى بثّ ثقافة تقوم على تصوير أعمال المقاومة كمدخل لسفك الدماء وتدمير (مقدّرات) الشعب واستعداء العالم والخوف من الوسم بالإرهاب، ونحو ذلك.

بعد عمليات الثأر للمهندس الشهيد يحيى عياش عام 1996 طفت مثل تلك الحالة السلبية على السطح، وغذّتها السلطة مستفيدة من نفوذها وسيطرتها على وسائل الإعلام، فتم تضخيم حجم أفكار الانهزام الشاذة لتبدو كأنها تمثل مزاجاً عاماً مناوئاً للمقاومة. واليوم يحدث أمر مشابه بعد تحوّل عمليات المقاومة الفردية إلى ظاهرة، مع فارق جديد هو وجود مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يكفي أن ينشر بعض الأشخاص منشورات معدودة تتهجم على المقاومة وتشكك في جدواها أو تتطاول على أبطالها لكي تطوف المجتمع الإلكتروني كله، ولتتباين ردود الفعل عليها ما بين مستهجن ومؤيد أو متجرئ على محاكاتها.

إن كان مفروغاً منه بأن الفئة المقاومة أو حاملة السلاح في أية ساحة تمثّل أقلية نادرة، فإن ما ينبغي الالتفات له بأن جمهورها ينبغي أن يظل مشكلاً الغالبية، وأن يكون تأييدها ممثّلاً المزاج العام داخل المجتمع، فدور الحاضنة الشعبية للمقاومة في أية معركة لا يقل أهمية عن دور المقاومة نفسها، لأن هذه الحاضنة تساهم في دفع الثمن وتحمّل تكاليف المواجهة، وحين يغدو نفسها قصيراً سينعكس الأمر مباشرة على ديمومة المواجهة وسيُفضي بها إلى التآكل.

ولذلك، لا ينبغي الاطمئنان دائماً بأن المجتمع تحت الاحتلال سيظل محتفظاً بحيويته النفسية وبإدراكه لأصول المعركة وتكاليفها، وطبيعة غايته وضروراتها، وواجب فصائل المقاومة الحية أن تتنبّه لهذا الخلل حين تلاحظ تجلّياته، وألا تخضع مسارها لبعض الاعتبارات القاصرة، بل أن تُعنى بالتعبئة الجهادية والمعنوية على الدوام، وأن تحرص على إبقاء المزاج العام متعافياً من الشوائب الطارئة، ومن الأفكار التي تزيّن الانهزام أو (تعقلنه) أو تنشغل بالترويج للمسارات غير المجدية والمفضية إلى السراب في إطار مشروح التحرير.

تتوقف المقاومة عند زوال مبررها، هذا ما ينبغي أن يكون حاضراً في وعي العامة، وإن كان مفهوماً أن تمر المقاومة بمراحل هدوء، فينبغي أن يكون هذا بإرادتها ووفق رؤية تتيح لها استثمار وقت الهدوء للتعافي والتطوير والتجديد، لكن ما يحدث في الضفة الغربية الآن أن المقاومة متوقفة بدافع القهر والاستباحة والملاحقة المزدوجة من قبل السلطة والاحتلال، وأن الهدوء فيها يجلب جموداً وتيهاً واستصعاباً للتضحية، وهو ما يعني بأن أية محاولة لنسف هذا الواقع أو تغييره يجب أن تكون مقدّرة ومبجّلة، حتى لو كانت على حساب مكتسبات بائسة واستقرار موهوم.

الثلاثاء، 16 يونيو 2015

عن المرأة في ظلال الثورة



عن المرأة في ظلال الثورة
لمى خاطر


ما زالت تلك الصورة النمطية حول دور المرأة في ظلّ أية ثورة أو حالة جهادية تقيّد من يتوقف ليتناولها أو يتحدث عنها، وهي صورة تتراوح بين التنظير المثالي الذي يكرّس همّه لإبراز دور بطوليّ متخيّل (في الغالب) للمرأة المشاركة بنفسها في المعركة كنوع من تقديرها (وفق تصور القائمين عليه)، وبين التركيز على معاناتها ومأساتها بشكل سطحي، يُعنى بالأرقام ووصف الحالات الأكثر مظلومية، أكثر من اعتنائه بالبحث عما وراء الحالة وما يجب أن تكون عليه، أو ما تفرزه تلك الوقائع من سلبيات أو إيجابيات على واقع المرأة والأسرة بشكل عام، أو البحث في كيفية تأهيل المرأة والأسرة في ظلّ الأحداث الكبرى التي تصادفها مسيرة الأمة في جميع ساحاتها.

في كلّ حديث عن بطولات الرجال أو عن جانب المحنة في مسارهم يندر أن يلتفت أحد إلى الجانب الآخر لقضية كل رجل؛ مجاهداً كان أم شهيداً أم أسيرا، أي المرأة في محيطه، أماً أو زوجة أو أختاً أو ابنة، أو أسرة بشكل عام، رغم أن هذا الجانب الآخر الذي يشكل ظلّ كل حالة تكتنفه مسؤوليات شتى، معنوية ومادية، لأن تلك المحاضن التي تمد الثورات والمعارك بالمجاهدين لا تتكوّن من الفراغ، ولا يمكن تجاهلها في خضمّ تناولنا مفاصل النهضة الجهادية داخل الأمة، لأن أماً أو زوجةً ذاهلة عن نداء الواجب وعن متطلّباته لا يمكن أن تعين الرجل في محيطها على التقدّم، ولا أن تمنحه الاطمئنان النفسي إذا ما قرر خوض لجة الثورة، خصوصاً إذا كان المسار طويلاً ومرهقاً ويتطلب صموداً كبيراً وتفانياً استثنائياً في سبيل الوصول للغايات العظيمة.

وهنا يكون الالتفات للمرأة شأناً ضرورياً وليس ترفاً يُطرح على هوامش القضايا، فالمرأة في هذا الموقع، أي في محيط الرجل المجاهد والمستعد للتضحية لا تستحق فقط التقدير والثناء، بل إن هناك مسؤوليات كبرى تفرض على الآخرين من غير حاملي السلاح أن يحيطوا هذه الأسر بكل أشكال الرعاية المتاحة، ولعلّ الساحات التي يطول فيها أمد الاحتلال أو الاستبداد يتبيّن فيها جيداً أثر التقصير مع ذوي بعض رموز الجهاد والمقاومة، وكيف أن الاهتمام بالرمز والغفلة عمن خلّفه من أهل بيته يفرز إشكالات كثيرة، ويسيء في مراحل لاحقة لهذا الرمز، ويبيّن حجم العيوب التي ينتجها التعاطي القاصر وغير الشامل مع حالة المقاومة ورموزها وشهدائها وأسراها، فهذه الثلة هي خميرة الثورات الحقيقية، ومن أعمارها يتصاعد الفجر شيئاً فشيئا، وعلى دمها يتغذى وينمو، لكنها ليس حالات معزولة عن نطاقها الاجتماعي، ولا تقف حدود مسؤولية المجموع عند الاعتناء بالرمز المضحي وإغفال الشريحة التي دعمته ابتداءً ثم كابدت آثار غيابه شهيداً أو أسيرا.

في الجانب الآخر، تبدو الحاجة ماسة لتعزيز قيمة التضحية وكنه رسالتها داخل كل مجتمع يعيش حالة جهاد وتضحية، لأن المدد البشري اللازم لتغذية هذا المسار في جميع المراحل سيتناقص مع الوقت إذا تُرك الأمر دونما إعداد أو عناية بمتطلباته. ذلك أن الاستعداد للتضحية لا يكون دائماً في أوجه ولا كحاله في بداية الثورة أو الحالة الجهادية. وهنا تبرز أهمية الاعتناء بذلك العنصر الغائب مجددا، أي المرأة والأسرة، فالإعداد والتعبئة ينبغي أن يبدءا من عندها، وإبصار تكاليف المسيرة لا بدّ أن يكون هناك، ومثله الوعي والفهم للدور الذي لا يجوز أن يقف عند حدود الصبر على البلاء عند حلوله وحسب، بل تجاوز ذلك إلى إدراك عظمة مسؤولية التربية والإعداد ودفع الرجال لساحات الجهاد، والتثبيت لا التخذيل، وهو دور ستسحن المرأة أداءه إن أُحسن أعدادها له وتم تهيئتها لتكون سارية في المعركة وركناً أساسياً في مسارها، وليس فقط عنصراً متلقياً للصدمات ومرغماً على تجرّع آلامها والبكاء على جراحاتها.

الاثنين، 8 يونيو 2015

حالة استنزاف



حالة استنزاف
لمى خاطر


في تفاصيل الأحداث التي طرأت مؤخراً على واقع غزة، ومسارعة كيان الاحتلال للرد بقصف مواقع للمقاومة بعد إطلاق بضعة قذائف على مستوطنات غلاف غزة تبدو معالم المعادلة على جبهة غزة قاسية وصعبة، وتستدعي تفكيراً بعيد المدى بواقع المقاومة ككل، ومدى إمكانية الحرص على استمرارها وفق نمط مختلف عن حالة الحروب الأخيرة.

ولعل مشروع المقاومة يُظلم كثيراً حين يُحصر (فلسطينيا) في غزة بواقعها وتعقيداتها وحصارها وصغر مساحتها، ثم حين يكون مطلوباً من المقاومة فيها أن تُبدع تكتيكات عالية المستوى وتستنزف جهوداً كبيرة لمفاجأة المحتل والتغلب على نقاط تفوّقه في جولات المواجهة التي بات معروفاً أنها لن تتوقف وستتجدد كل بضع سنوات، ما دامت حماس في غزة ترى في المقاومة عنوانها الأبرز ومنهجها الذي لن تتحوّل عنه.

صحيح أن الاحتلال يعي جيداً كلفة مغامرته بشن عدوان مفتوح جديد على غزة على غرار الحروب الثلاث السابقة، وصحيح أن تطور إمكانات وتكتيكات المقاومة وخصوصا كتائب القسام خلال الحرب الأخيرة ساهم في ردع الكيان عن الاستباحة المزاجية لقطاع غزة، لكنه في المقابل لا يمكن أن يغفل عن التطورات التسليحية في واقع المقاومة، أي استفادتها من عامل الزمن لترميم بنيانها وتوسيع نفوذها وتعزيز قدراتها. وهو ما يعني أن قطاع غزة سيظلّ مستهدفاً بشدّة ما دام حال المقاومة فيه لم يتغيّر، وما دام بعيداً عن التورّط في خطيئة التعاون الأمني مع المحتل وتواطؤ سلطته مع عدوّها على ذبح المقاومة وتجفيف منابعها.

فالحالة الراهنة تشير إلى أن غزة باتت جبهة المقاومة الوحيدة التي تهدد أمن الاحتلال، وأن حدوده الأخرى كلها في مأمن، بعد انسحاب حزب الله من معادلة المواجهة وتورطه في المشروع الإيراني في عدة ساحات، أما واقع الضفة والقدس ومناطق 48 فيتحدث عن نفسه، ولا يشي بإمكانية استعادة دوره في المواجهة على المدى القريب، إلا من عمليات متفرقة ومتباعدة وفردية الطابع في غالبها، نظراً لفقر الإمكانيات التسليحية والتخطيطية السليمة للعناصر المستعدة لحمل عبء استكمال مشروع المقاومة في هذه المناطق، وإحكام القبضة الأمنية فيها من قبل الاحتلال والسلطة على حد سواء، والتي توظف جهوداً كبيرة في إبقاء جدار (الأمن المطلق لإسرائيل) خالياً من أية ثغرات.

غير أن ساحة الضفة والقدس، كما ساحات أخرى على مستوى الأمة، ستكون حيوية لاستئناف مسيرة المقاومة والإثخان في المحتل أكثر من غزة في حال تغيّر واقعها،  ذلك أن مشاغلة الاحتلال على عدة جبهات في وقت واحد من شأنها أن تفرض معادلة جديدة على واقع فلسطين والأمة عموما، ولعلّ المشهد الميداني في مراحله النهائية سيتجه لهذه الحالة، ولذلك نفهم مثلاً الجزع الذي يبديه الكيان الصهيوني من إمكانية سقوط نظام الأسد وسيطرة مجاهدي سوريا على أسلحته الثقيلة، أو من التصدع في جدار الانقلاب في مصر، وهو الذي قدم للكيان خدمات أمنية جليلة بعد حصاره الدامي لغزة وتجريمه مقاومتها.

مفهوم طبعاً بأن حرب الأمة مع طواغيتها والعادين عليها تستنزف وقتها وتفكيرها وجهد مجاهديها، وأن الطريق إلى فلسطين لن يمر من تحت رايات الأنظمة التي حمت إسرائيل على مدار عقود، لكن مشاغلة هذا الكيان في ساحات عدة ينبغي أن تكون حاضرة في تفكير وتخطيط من يحملون مفاهيم تحرير الأمة أو يتطلعون إلى القدس كمحطة أخيرة لمشروعهم الجهادي التحرري، لكن الضفة الغربية (بما فيها القدس) تظلّ الساحة الأكثر حيوية وافتقاراً لنمط مقاوم يعيد لها وهج أيامها حين كان الاشتباك قاعدة في تاريخها وليس استثناء، لكن هذا يتطلب أولاً أن تعي حركات المقاومة وعلى رأسها حماس ضرورة أن يكون استثمارها الأهم في هذه الساحة هو في المقاومة وليس في أي شيء ثانوي آخر، وحينها سيصبح الاستنزاف (الحاصل في كل الأحوال) مجدياً ومغيّراً وليس مجانياً وعبثياً كما هو حاله منذ سنوات.