الاثنين، 27 يوليو 2015

بين يوم القدس واقتحام الأقصى



بين يوم القدس واقتحام الأقصى
لمى خاطر

لم تكن فترة زمنية طويلة تلك الفاصلة بين (يوم القدس العالمي) الذي اصطلح (إيرانياً) على أن يكون في آخر جمعة من شهر رمضان كل عام، وبين اقتحام المستوطنين وجنود الاحتلال الصهيوني ساحات المسجد الأقصى بدعوى إحياء أكذوبة (خراب الهيكل).

في (يوم القدس العالمي) هذا العام، كان إحياء إيران وأركان حلفها للمناسبة في غاية الركاكة والجفاء، فحضور القدس بقيمتها المعنوية والأخطار المتصاعدة حولها كان باهتاً ومصطنعا، لدرجة أن وسائل الإعلام المحسوبة على إيران أو المقربة منها كانت تبحث عن حضور إيران في يوم القدس في ساحات العالم المختلفة، وليس عن القدس في يومها المُفترض، وهكذا فإن القدس التي تغيب بالكامل عن أجندة الحلف الإيراني تعود لتُستحضر في يوم يتيم في السنة وبأسلوب مبتذل، بحيث تغدو كل معارك هذا الحلف في أية بقعة في العالم كأنما تفتح طريقاً نحو القدس، كون حلفاء إيران في المنطقة ما زالوا يرونها وصيةً على مقاومة الاحتلال الصهيوني وصاحبة الحق الحصري في تصنيف الأفراد والتيارات والأنظمة خارج أو داخل دائرة الانتساب لمشروع المقاومة.

كان التطور هذا العام بأن نكتشف أن طريق القدس لا تمر فقط من الزبداني ودمشق كما قال حسن نصرالله، بل حتى من جميع مشاريع إيران وحروبها في العراق واليمن، ومن عدوان الحوثيين أيضاً في اليمن، ثم اختزال الشعب اليمني بتاريخه وقيمه العامة في هذه الفئة القليلة لكن الحائزة على صكوك الغفران بمفهومها الإيراني.. وكل هذا لأجل عيون القدس، بل إن (عبدالملك الحوثي) اجتهد يومها في خطابه الذي سبق خطاب نصرالله في التأكيد على أن كل من يقاوم الحوثيين في اليمن يخدم سياسات إسرائيل، وكرر كلمة إسرائيل تقريباً في كل جملة من خطابه، في محاولات مستميتة لإلحاق مشروع الحوثيين وإيران في اليمن بمشروع المقاومة ومنازلة إسرائيل، وهو ما عبر عنه نصر الله بأسلوب لا يختلف كثيراً عن تلميذه الحوثي، ولكن عبر آلية عرض أكثر دعائية، نظراً لعامل الخبرة الذي يتفوق فيه الأول.

انتهى يوم القدس، وتوقف معه الاهتمام الإيراني بها، وذهبت الخطابات إلى حال سبيلها، لأنها كانت فقط حاجة إعلامية دعائية، يتم الاعتناء بتزيينها لمثل هذا اليوم، ثم يمضي بعدها المشروع الإيراني ومعه أولويات حزب الله نحو بؤر بعيدة عن حدود فلسطين وساحات الأقصى.

ومع الاقتحام الصهيوني الجديد للأقصى لنا أن نتوقع الآن مضامين اللغة التي ستكتنف خطاب الحلف الإيراني في تعاطيه مع الحدث، حيث سيتم التركيز على هجاء العرب والنظام الرسمي، رغم أن هذا النظام الخائب المستسلم لا يقدم نفسه حامياً للقدس ومدافعاً عنها، ولا يصنف نفسه خطراً وجودياً على إسرائيل كما وصف نصر الله إيران، وسخّف بطريقة معمّاة فصائل المقاومة الأخرى، جاعلاً خطرها محدوداً وعابراً مقابل الخطر الإيراني (الوجودي) على إسرائيل.

الإشكالية هنا، أن الحلف الإيراني في ابتعاده التام عن قضية فلسطين وهمومها، والأقصى والمخاطر المحيقة به، لا يمتلك الشجاعة والمصداقية ليعترف بأولوياته الجديدة وطبيعة أجندته واهتماماته الحالية، بل نراه يصرّ على إقحام ادعائه الالتزام تجاه فلسطين والقدس في كل خطواته حتى تلك الإجرامية، أما حين يَصعد نداء الواجب ويعلو صوت المطالبة بالفعل عند كل مجزرة في فلسطين أو اقتحام للأقصى فلا نسمع من هذا الحلف غير هجاء متواصل للعرب الرسميين وتبيان لتآمرهم على قضية فلسطين وخذلانهم إياها، رغم أن هذا الخذلان أمر مفروغ منه ومعلوم بالضرورة منذ عقود، والتأكيد عليه ما عاد يضيف قيمة للخطاب أو تبرئة من المسؤولية لمن يتحدث به، عدا عن أن العرب الرسميين لم يقولوا يوماً إنهم سيحررون فلسطين وسيلقون بإسرائيل في البحر، ولم يصنفوا أمريكا شيطاناً أكبر، بل إن بعضهم متصالح مع خيبته وتبعيته لأمريكا، ويقر بجبنه وانخفاض سقفه. ولكن ماذا عمن يبررون كل معاركهم داخل الأمة بأنها لأجل عيون فلسطين والقدس ثم يغيبون عند كل عدوان عليها وكل استباحة للمقدسات؟!

تلك هي التجارة كما امتهنها أركان الحلف الإيراني في المنطقة، وهذا هو الاحتكار في أبشع صوره، التجارة المزمنة بقضية مقدسة، واحتكار ادعاء الاهتمام بها، ولكن دون أن يضيف هذا الاهتمام المزعوم لها شيئاً في المراحل الفاصلة، وعند احتياجها الفعل والإعانة.

الثلاثاء، 21 يوليو 2015

من سلواد إلى (أبو مطيبق)



من سلواد إلى (أبو مطيبق)
لمى خاطر


لم يكن أواخر آب من العام الفائت (2014) منتهى حرب العصف المأكول، فلم تُطوَ صفحتها بإعلان وقفها، لأن ثمة هزات ارتدادية لها ما زالت تتجلى حتى اليوم، ويتوقع أن يطول أمدها وهي تقدّم مفاجآت عديدة من حين لآخر، وتظهر جانباً مما كان مستوراً خلال الحرب، أو تعمّدت كتائب القسام الصمت عنه وقتها، لتظهره في مراحل لاحقة.

فيلم (خلف الخطوط) الذي بثته كتائب القسام قبل يومين وكشفت فيه تفاصيل اقتحامها موقع (أبو مطيبق) العسكري خلال الحرب لم يكن العملية الفريدة الوحيدة، فهناك عشرات غيرها، بعضها موثق بالتصوير، فيما كشف الاحتلال تفاصيل بعضها الآخر، لكنها جميعاً أكدت حقيقة تفوّق القسام العملياتي خلال الحرب، ومدى التطور والأداء المتقدم الذي بلغه عناصر الكتائب، إضافة لجرأتهم على الاقتحام وكسر كثير مما يبدو مستحيلاً أو خارج حدود القدرة على الاستهداف.

والأهم من ذلك أن نهاية ارتدادات الحرب ستظل مفتوحة إلى حين إتمام صفقة تبادل الأسرى، مع كل ما ستكشفه الأيام قبل تلك اللحظة من معلومات حول عدد ومصير أسرى الاحتلال لدى حماس، ليس فقط لأن كل معلومة بثمن، بل لأن اضطرار الاحتلال مؤخراً للاعتراف بفقده عناصر حية في غزة قد بيّن أن المعادلة على تلك الجبهة قد تغيّرت بالكامل، ولم يعد الاحتلال صاحب اليد العليا الباطشة دونما حساب، وغير القابلة للإيلام.

وبالتزامن مع ذكرى الحرب كانت المفاجأة على الساحة المقابلة للمقاومة، أي الضفة الغربية، مع إعلان الاحتلال كشفه عناصر الخلية التي نفذت مؤخراً عدة عمليات ضد المستوطنين الصهاينة في الضفة، حيث تبيّن أن الخلية من بلدة سلواد قرب رام الله، لكن المفاجأة غير المدهشة أن عناصرها لم يكونوا جميعاً رهن الاعتقال لدى الاحتلال، بل إن اثنين منهم هما أحمد الشبراوي ومعاذ حامد معتقلان لدى مخابرات السلطة في رام الله، وذلك منذ حملة الأجهزة الأمنية ضد عناصر حماس في الضفة خلال شهر رمضان، وعقب تزايد وتيرة عمليات إطلاق النار على سيارات المستوطنين في الضفة.

استهداف السلطة مجاهدي المقاومة ليس جديدا، فهو سياسة منتهجة منذ اتفاق أوسلو، وفقاً لمقتضيات التزامات السلطة الأمنية، لكن تلك السياسية القذرة توقّفت في غزة منذ عام 2007، بينما ظلّت مستمرة في الضفة، وغدت خلايا المقاومة عرضة للملاحقة والاستنزاف على جبهتين، مما أسهم في إفشال محاولاتها للتقدّم والتعافي وتجاوز العثرات. 

فضيحة اعتقال المجاهدين وتعذيبهم ومحاسبتهم والتناوب مع الاحتلال على ملاحقتهم تتحدث عن نفسها، لأن تجلياتها يومية ولا قِبَل لقادة السلطة بإنكارها، وفي المقابل فإن أمثولة صعود نجم المقاومة في غزة تتحدث عن نفسها وعن رعاتها، وعن أسبابها وآثارها.

من سلواد إلى (أبو مطيبق) يبدو واضحاً أننا نتحدث عن نوعية واحدة من المجاهدين الاستثنائيين في زمن صعب ومكان محاصر، لكن الفرق بين الحالتين ليس في المسافة بين الموقعين وحسب، بل في الظروف التي تطارد الأول، وتلك التي تحتضن الثاني وترعاه، وهو فرق ينبغي ألا يتلاشى من الأفهام عند تطرّق أي كان لفضائل المقاومة وضروراتها، ومحاولة استيعاب حاجاتها وخصائص واقعها.

ومن سلواد إلى (أبو مطيبق) تسامت راية العز والفخار وسقطت رهانات التنسيق الأمني مع المحتل، وتمايز حملة لواء المقاومة عن مشرّعي أسنة الحرب عليها. ولم يختلف شعار المجاهد في سلواد عنه لدى نظيره في غزة، الذي اختلف فقط جدار الاتكاء وحجم الصلاحية التي يحوزها المحتل للعبث في كل ساحة منهما، ونجاحه أو إخفاقه في توظيف وكلائه وإنفاذ خطط إجهاض المقاومة.

الثلاثاء، 14 يوليو 2015

ليست مجرّد جولة



ليست مجرّد جولة
لمى خاطر

ليس سهلاً اختزال ذكرى حرب العصف المأكول في مقالة واحدة، مثلما أنه ليس من الإنصاف تناول جانب منها وإغفال آخر. فمشهد البطولة الاستثنائية تقابله تفاصيل الفجيعة التي خلّفها الإرهاب الصهيوني في قصفه الجنوني، والصورة الجهادية فائقة الفرادة لمن صنعوا سلاحهم بأيديهم وطوروا وسائله، تقابلها كارثة الحصار الذي تتواطأ على إدامته أطراف عديدة، لأن غزة ومقاومتها عوقبت وما زالت تعاقب لأجل خياراتها المقاومة، غير القابلة للتطويع أو القولبة وفق مقاسات أوسلو وشبيهاتها.

لكننا بعد مرور عام على الحرب يلزمنا أن نستعيد تلك العِبر المستترة أو التي لا تحظى بالْتفات كثيرين في سياق استرجاعهم يومياتها، بشقيها البطولي والمأساوي، فمن ناحية البطولة ما عاد هناك شكّ بأن جهازاً بحجم ووزن كتائب القسام قد غدا أميناً على المقاومة في فلسطين ومحلاً لثقة أهلها، وهو يخوض لجة الصعاب ولا ينفكّ يسجّل الإنجازات وإشارات التقدم، ويفي بعهده، ويتمسّك بسلاحه، ويحافظ على قيمة المقاومة في الوعي والتطبيق.

أما من ناحية المأساة، فإلى جانب سيل الدماء التي أسالها المحتل دونما حساب، وهو ينتقم لتهاوي أسطورة وحدات النخبة من جيشه، فهناك الدمار الذي ما زال مقيما، كنتيجة طبيعية للحصار الانتقامي والعقابي الذي تتعرض له غزة، فيما يبتعد كثير من الساخطين على تأخر الإعمار عن إدراك حدود معادلة التركيع التي يراد لغزة أن تخضع لضوابطها.

أما عن تلك العِبَر المستترة فيلزم وقت إضافي لاستعراض مسيرة المقاومة في غزة، وفهم مفاصل تكوينها وتطويرها، والإحاطة بواقع الحاضنة الشعبية للمقاومة فيها، وفهْم لماذا أقلعت المقاومة في تلك الساحة وانتكست في غيرها، فالمحطة الأخيرة للحرب لم تكن وليدة ذاتها، وكذا إبداع المقاومة ومفاجآتها وجديدها فيها، إنما كانت نتيجة أولية وثمرة سنوات طويلة من الإعداد المنظم، المستند إلى بيئة سياسية وأمنية نظيفة، والمبصر خطواته وأهدافه البعيدة والمدى الذي يرمي الوصول إليه.

ويلزم أن نتمعن في مشهد تراكم الصعوبات وتعاظم التحديات في بيئة جغرافية محاصرة، لكنها صامدة ومتأهبة ومستعدة، لأن السر ليس في جغرافيتها، بل في الإرادة التي أنتجت هذه الحالة وبوّأتها مكانة عالمية، حتى غدت غزة قِبلة المقاومة، ورهان الإنجاز، ومفتاح الانعتاق؛ الانعتاق من الارتهان للمحتل ومن الخضوع لإملاءاته، والانعتاق من التبعية للجهات التي تقدّم دعماً مسيساً ومغمّساً بذلّ المواقف واصطفافات المحاور.

ويلزم أيضاً الحرص على ألا تبقى جبهة غزة وحدها من تشاغل المحتلين وتؤرق استقرارهم، لأن مشروع التحرير الكلي سيظل أكبر من طاقتها وحدها، إنما لا بد من الدفع بجبهات أخرى، داخل فلسطين وخارجها لتحاكي تلك التجربة الفريدة، أو على الأقل لتأخذ دورها في صياغة المراحل المتغيرة مستفيدة مما لديها من هوامش وثغرات، حتى وإن بدت ضئيلة وذات أثر محدود في البداية، لأن العبرة في مجالات وآفاق التقدّم والتطور، وبدونهما سيظل الحديث عن التحرير مجرّد أحلام يقظة، وعبارة مكرورة للتداول الإعلامي الجاف.
أما ذلك العامل البشري، المتمثل في نخبة من ارتقوا من المجاهدين خلال الحرب، ففيه الزاد الحقيقي لكلّ باحث عن أسرار ذلك السموّ والاستبسال الذي رافق المجاهدين في معاركهم الاستثنائية، في عمليات الإنزال والأنفاق والمواجهة المباشرة، لأن خصائص كل عنصر منهم تتكلّم عن أصحابها وتشرح بإسهاب دوافع التفوّق وأسباب الإتقان، وعناصر الإقدام والبسالة.

(العصف المأكول) كانت جولة في مسيرة طويلة وشاقة، لكنّ دروسها ينبغي أن تظلّ حاضرة ومتداولة، حتى حين يعلو شَغَب أعداء المقاومة وخصومها في سبيل تكريس صورة المأساة دون البطولة. وعزاؤنا هنا أن أصحاب الفعل يبصرون طريقهم جيداً وقد أسقطوا خيار التراجع والجمود من حساباتهم، ووعوا قيمة ما بأيديهم، فيما يظل خصوم المقاومة سادرين في غيهم وشغبهم، بينما وزنهم الفعلي على الأرض وفي الميزان النضالي صفر كبير.

الثلاثاء، 7 يوليو 2015

ما لم تستطع السلطة إخفاءه



ما لم تستطع السلطة إخفاءه
لمى خاطر


هذه المرة، كان تبرير أجهزة السلطة لحملتها الأمنية الواسعة في الضفة أقرب لدوافعها الحقيقية من أي وقت مضى، رغم أن خطاب ناطقيها اكتنفه شيء من المراوغة والتضليل كالعادة، أو التلاعب بالمفردات، كمفردة (فوضى) التي استخدمت بديلاً عن (مقاومة). غير أن حركة فتح والسلطة أقرّتا هذه المرة بأن استهداف كوادر حماس في الضفة سببه سعي الأخيرة للتصعيد، أي تصعيد مقاومة الاحتلال، وهو أمر تراه السلطة ضاراً بمصالحها ومهدداً وجودها، كونها ما زالت تعتاش على خيرات تعاونها الأمني مع الاحتلال، وتجبي منه ثمناً وحمايةً نظير جهودها في محاربة (الإرهاب).

تذكرنا هذه الحملة التي طالت المئات من عناصر حماس ما بين اعتقال واستدعاء بحملة الاحتلال عقب عملية أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل، حيث الاستهداف الشامل لجميع مظاهر نشاط حماس، وحيث المساس بجمهور المقاومة وكلّ متعلّقاتها، مع فارق أن الهدف العقابي كان واضحاً في حالة الاحتلال، بينما نجده في حالة السلطة متوارياً خلف تلفيق اتهامات عديدة للمعتقلين، لكي توظّف كمبرر يتيح للقضاء احتجاز المعتقلين للمدة التي يرغب بها الجهاز الأمني.

إضافة لهذا الهدف العقابي، ثمة أهداف أخرى تتوزّع بين التخويف والترهيب لعناصر حماس، ومحاولات الظفر بطرف خيط يقود لمن يقفون خلف العمليات الأخيرة التي ما زال الاحتلال عاجزاً عن كشف خيوطها، فتجربة السنوات الفائتة أثبتت للاحتلال أن السلطة كانت في بعض الأحيان أكثر (كفاءة) منه في رصد عمليات للمقاومة قبل حدوثها أو الكشف عن خيوطها، ليتولى هو إكمال بقية المهمة من اعتقالات واغتيالات للخلايا المنفّذة.

وهنا، ورغم صراحة ناطقي السلطة في حديثهم عن دوافع الحملة، إلا أنه كان لا بد من إقحام غزة في الأمر، واستنكار هدنتها (غير المعقودة أصلا) مقابل التصعيد المحتمل في الضفة، الذي تحسب السلطة له حسابات استباقية، على طريقة عبدالفتاح السيسي في حديثه عن (الإرهاب المحتمل) واتخاذه مسوّغاً لعمليات قمع واسعة وهمجية. غير أن هذا المستوى الرخيص من استغفال الجمهور والمراهنة على فساد ذاكرته لا يجدي معه التفنيد المنطقي لتهافته المتعمّد، ولعل أفضل تعليق عليه كان قول أحد الناشطين مخاطباً السلطة في الضفة: "اخطفوا لنا جزءاً من جندي واعقدوا بعدها هدنة لمدة 10 سنوات" و"أطلقوا صاروخا على تل أبيب ثم أعقبوه بهدنة". بمعنى أن المقارنة بين واقعي غزة والضفة فاسدة من الأساس، ففي غزة يتم استثمار كل دقيقة من الهدوء لتطوير وتعزيز وسائل المقاومة وإمكاناتها، أما في الضفة فإن الهدوء فيها ينتج الهوان والبلادة والوطنية ويغري بالتعايش مع وضع الاحتلال واعتياد إجراءاته على الأرض، فضلاً عن أنه هدوء مجاني ولا يُستفاد منه سوى في تثبيت تجريم المقاومة وتجفيف منابعها أو ما تبقى منها.

ولذلك فإن التفكير الوطني السليم بمشروع المقاومة ككل ينبغي أن يقود تلقائياً إلى فهم ضرورات تعافي المقاومة في ساحة الضفة، الحساسة والمهمة والمستباحة في آن واحد. وأعتقد أن حماس بصفتها رائدة الفعل الجهادي المقاوم في فلسطين توقن أن طريق المقاومة والجهاد ليس مفروشاً بالورود ولا ينبغي أن يكون كذلك، كما أن استعدادها الدائم لدفع ضريبة خياراتها الجهادية سيظل دليلا على حيويتها وعدم تحولها عن نهجها. ولذلك لا قيمة لكل صوت يحاول التبخيس من قيمة العمل المقاوم في الضفة أو يراه سبيلاً للاستنزاف، لأن النزف في سبيل إذكاء روح الجهاد وديمومة مسيرته هو القاعدة في مسيرة الحركات المقاومة وليس الاستثناء، وليس مهماً كثيراً طبيعة الجهة التي تقوم بجباية هذه الضريبة من الأعمار والأرواح، وسواء أكانت السلطة أم الاحتلال فهذا لا يغير من الحقيقة شيئا، حيث تعلو قيمة التضحية ويهبط رصيد الانسحاب والجمود والحسابات المترددة، وحيث يظهر الفرق جليّاً بين راعي المقاومة وحامي جدارها، وبين المتواطئ مع عدوّه على مواجهتها وتحييدها وإنهاكها، وتغييبها ثقافةً وسلوكاً وجمهورا.