الثلاثاء، 14 يوليو 2015

ليست مجرّد جولة



ليست مجرّد جولة
لمى خاطر

ليس سهلاً اختزال ذكرى حرب العصف المأكول في مقالة واحدة، مثلما أنه ليس من الإنصاف تناول جانب منها وإغفال آخر. فمشهد البطولة الاستثنائية تقابله تفاصيل الفجيعة التي خلّفها الإرهاب الصهيوني في قصفه الجنوني، والصورة الجهادية فائقة الفرادة لمن صنعوا سلاحهم بأيديهم وطوروا وسائله، تقابلها كارثة الحصار الذي تتواطأ على إدامته أطراف عديدة، لأن غزة ومقاومتها عوقبت وما زالت تعاقب لأجل خياراتها المقاومة، غير القابلة للتطويع أو القولبة وفق مقاسات أوسلو وشبيهاتها.

لكننا بعد مرور عام على الحرب يلزمنا أن نستعيد تلك العِبر المستترة أو التي لا تحظى بالْتفات كثيرين في سياق استرجاعهم يومياتها، بشقيها البطولي والمأساوي، فمن ناحية البطولة ما عاد هناك شكّ بأن جهازاً بحجم ووزن كتائب القسام قد غدا أميناً على المقاومة في فلسطين ومحلاً لثقة أهلها، وهو يخوض لجة الصعاب ولا ينفكّ يسجّل الإنجازات وإشارات التقدم، ويفي بعهده، ويتمسّك بسلاحه، ويحافظ على قيمة المقاومة في الوعي والتطبيق.

أما من ناحية المأساة، فإلى جانب سيل الدماء التي أسالها المحتل دونما حساب، وهو ينتقم لتهاوي أسطورة وحدات النخبة من جيشه، فهناك الدمار الذي ما زال مقيما، كنتيجة طبيعية للحصار الانتقامي والعقابي الذي تتعرض له غزة، فيما يبتعد كثير من الساخطين على تأخر الإعمار عن إدراك حدود معادلة التركيع التي يراد لغزة أن تخضع لضوابطها.

أما عن تلك العِبَر المستترة فيلزم وقت إضافي لاستعراض مسيرة المقاومة في غزة، وفهم مفاصل تكوينها وتطويرها، والإحاطة بواقع الحاضنة الشعبية للمقاومة فيها، وفهْم لماذا أقلعت المقاومة في تلك الساحة وانتكست في غيرها، فالمحطة الأخيرة للحرب لم تكن وليدة ذاتها، وكذا إبداع المقاومة ومفاجآتها وجديدها فيها، إنما كانت نتيجة أولية وثمرة سنوات طويلة من الإعداد المنظم، المستند إلى بيئة سياسية وأمنية نظيفة، والمبصر خطواته وأهدافه البعيدة والمدى الذي يرمي الوصول إليه.

ويلزم أن نتمعن في مشهد تراكم الصعوبات وتعاظم التحديات في بيئة جغرافية محاصرة، لكنها صامدة ومتأهبة ومستعدة، لأن السر ليس في جغرافيتها، بل في الإرادة التي أنتجت هذه الحالة وبوّأتها مكانة عالمية، حتى غدت غزة قِبلة المقاومة، ورهان الإنجاز، ومفتاح الانعتاق؛ الانعتاق من الارتهان للمحتل ومن الخضوع لإملاءاته، والانعتاق من التبعية للجهات التي تقدّم دعماً مسيساً ومغمّساً بذلّ المواقف واصطفافات المحاور.

ويلزم أيضاً الحرص على ألا تبقى جبهة غزة وحدها من تشاغل المحتلين وتؤرق استقرارهم، لأن مشروع التحرير الكلي سيظل أكبر من طاقتها وحدها، إنما لا بد من الدفع بجبهات أخرى، داخل فلسطين وخارجها لتحاكي تلك التجربة الفريدة، أو على الأقل لتأخذ دورها في صياغة المراحل المتغيرة مستفيدة مما لديها من هوامش وثغرات، حتى وإن بدت ضئيلة وذات أثر محدود في البداية، لأن العبرة في مجالات وآفاق التقدّم والتطور، وبدونهما سيظل الحديث عن التحرير مجرّد أحلام يقظة، وعبارة مكرورة للتداول الإعلامي الجاف.
أما ذلك العامل البشري، المتمثل في نخبة من ارتقوا من المجاهدين خلال الحرب، ففيه الزاد الحقيقي لكلّ باحث عن أسرار ذلك السموّ والاستبسال الذي رافق المجاهدين في معاركهم الاستثنائية، في عمليات الإنزال والأنفاق والمواجهة المباشرة، لأن خصائص كل عنصر منهم تتكلّم عن أصحابها وتشرح بإسهاب دوافع التفوّق وأسباب الإتقان، وعناصر الإقدام والبسالة.

(العصف المأكول) كانت جولة في مسيرة طويلة وشاقة، لكنّ دروسها ينبغي أن تظلّ حاضرة ومتداولة، حتى حين يعلو شَغَب أعداء المقاومة وخصومها في سبيل تكريس صورة المأساة دون البطولة. وعزاؤنا هنا أن أصحاب الفعل يبصرون طريقهم جيداً وقد أسقطوا خيار التراجع والجمود من حساباتهم، ووعوا قيمة ما بأيديهم، فيما يظل خصوم المقاومة سادرين في غيهم وشغبهم، بينما وزنهم الفعلي على الأرض وفي الميزان النضالي صفر كبير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق