الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

انتفاضة النفوس!

انتفاضة النفوس!
لمى خاطر


كثير ذلك الذي يمكن أن نكتبه ونتناوله في ذكرى انتفاضة الأقصى؛ دلالاتها وتطوراتها ومفاجآتها، والنتائج التي أفضت إليها ( أهمها تحرير غزة)، ثم المخططات التي وضعت ورُتبت لإجهاض روحها ومنع تجددها، ولحمل الوعي الجمعي على الزهد بجدوى الانتفاضات الجماعية التي يمكن أن تبذل فيها الدماء رخيصة، ثم لا تلبث أن تتحول وقوداً للعمل المسلّح المجرد من حسابات الخسارة، والمتسارع في مدّه بقدر ما يُتاح له من حرية للإبداع والعطاء.

ولعل تزامن الذكرى هذا العام مع حادثة اغتيال البطلين القساميين عامر أبو عيشة ومروان القواسمي في الخليل ألزمني بالتركيز قليلاً على قضية واحدة في ظلال الحدثين، وهي الأثر، الأثر الذي قد يصنعه فعل نوعي واحد، بكل ظروفه وإفرازاته ونتائجه، وكيف يتفوّق هذا الأثر على أفعال كثيرة متناثرة سرعان ما تنسى.

والحال أنني أتحدث هنا عن ساحة الضفة حصرا، لأن الأثر المتحصل من فعل المقاومة في غزة ونوعيته وتركيزه خلال معركة (العصف المأكول) مفهوم وملاحظ، وهو أساس التحوّل الحالي في المزاج الفلسطيني العام، وانزياحه باتجاه القناعات التي يتضمّنها نهج المقاومة، وما يترتب عليه من تضحيات جمّة.

لكن الضفة هنا، حتى وهي مهيضة الجناح، برز فيها مثال لحدث بالغ التأثير (عملية الخليل)، بسبب استثنائيته وإنجازه في توقيت معقّد وظروف شائكة، وعلى مشارف حالة مأزومة على عدة صعد، سياسياً وعسكرياً وميدانيا، ومن هنا ظلّ مكتسباً زخمه الكبير الذي تغلغل في النفوس وفتح نوافذها على حقائق كانت مغيبة أو منسية، سواء على صعيد تحرر الإرادة من عجز الواقع، أو ما يخصّ طبيعة النماذج المنتجبة للفعل المقاوم، وملامح سيرتها ومناقبها، وكيف اختلفت عن غيرها حين لم تدر ظهرها لنداء الواجب، وما الذي أهّلها لتسلك الدرب الأصعب وهي مبصرة مآلاته، وراضية بمصيرها المتوقع.

أغلق المحتل فاتورة حسابه بالإعلان عن اغتيال الشهيدين، لكن الأمر لم ينتهِ هنا، فأثر الدماء المبذولة في إطار الصورة الكلية للحدث ونتائجه (وليس نهاياته) ما زال متفاعلا، غير أن رصد هذه التفاعلات والمدى الذي بلغته لا يُتاح لمن يستعير النظريات المجردة في تقييم الفعل والتعاطي مع حدث الشهادة، ولا لمن يرى أن خسارة الشهيدين أثقل من تلك الانتفاضة النفسية التي صنعاها، وخلخلة بنيان الجمود الذي كاد أن يصبح قدراً لا فكاك منه في عرف كثير من مستثقلي ضريبة التغيير.

جمر تحت الرماد، ونار تضطرم في النفوس، تلك هي محددات الخطوة القادمة المطلوبة والمنتظرة، فالأحداث الفاصلة لا تصنعها نفوس تقليدية وادعة، تألف التعايش مع كل حالة ذلّ مفروضة عليها، وتنشغل في حشد مسوّغات الانكفاء أو توصيفها، وانتفاضة النفوس هي حجر الزاوية في مشهد التغيير، وبدونها يكون الحلم بالانتقال إلى عهد مختلف (كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح).. لكن حدوث الانقلاب النفسي الكامل لجيل بعينه تَلزمه نماذج من واقعه القريب، وهي المنائر التي تنتصب شاخصة على طول الطريق، فلا تنطفئ، ولا تبلى، لأنها امتلكت المفاتيح الأولى وواجهت العواصف وحيدةً ابتداءً فحقّ لها أن تصنع طوفاناً تأثيرياً لا يغادر نفوس وعقول سالكي نهجها.

جرح يتّسع، وبدر يكتمل!

جرح يتّسع، وبدر يكتمل!

لمى خاطر
 
 

اغتيال وجرح.. شهادة ونافذة بهاء.. احتراق وارتقاء
نجوم تنبثق من آخر حدّ يسيل عنده الدم
أشواق تستعر حين تفاجئها المواجع
لكنه الاصطفاء، فقه الشهادة وسنّة الجهاد وأمنية الفدائي القارئ مصيره بين دفتي مصحفه (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)
المصير الذي أبصره وهو يُذيب حديد المستحيل ويصنع انفساح اللحظة الاستثنائية، ويطلق ترنيمته الأشهى في لحظات عمليته الأولى
عامر ومروان أبصرا مصيرهما مبكّرا، وأيقنا أنها ميتة واحدة، وأن من لم يمت بالسيف مات بغيره، فآثرا اقتفاء آثار النجوم، فما عاد في الأرض ما يغري بالمقام
واليوم؛ حملا أسرار اللحظات كلّها ورحلا، حملا عطر الربيع ووهج الصيف ونكهة أوّل الخريف ورحلا..

لا تذرفوا الدمع على عامر، ولا تجللوا وجه مروان، اتركوا للشوارع أن تستنفذ حزنها، وتغسل وجومها.. امنحوها فرصة أخيرة لأن تستذكر أصداء الأصوات التي كانت تمجّد اسميهما في كل غدوة وروحة

واتركوا لنا أن نكتسي لونَ دمهم إلى حين، أن نطرّز حوافّ قلوبنا بيقين الأمهات والزوجات الصابرات.. أن نختلس النظر للإباء إذ يتمثّل لنا بشراً سويا، إنساناً من لحم ودم، وعاطفة تحبّ وتتألّم، لكنها تفاضل بين أشواقها، فيغلب شوقُها للسماء أرضيتَها وبشريتَها، كما يغلب ضعفَ المرتجفين، ويهزأ بانسحابهم إلى ذواتهم.

في اليوم التالي للشهادة:
طائرة الاستطلاع (الزنانة) تغادر سماء الخليل..
الدورية التي ستداهم بعض الأحياء هذه الليلة ستتخفف من رتلٍ من احتياطاتها التحصينية لأن آخر البنادق تفجّرت..
العساكر (الوطنية) الجالسة في مربعها الأمني ستبذل وقتاً أطول في تلميع (سباطاتها) وعدّ رصاصاتها المحسوبة أصلا..
سيأخذ العسس والوشاة قسطاً وافراً من الراحة يتخلله قدر قليل من تأنيب الضمير، ويخالطه عزاء أكبر لأن مهمتهم كانت (وطنية)..
الهلال يتصاغر ويختفي في السماء، ثم يتشكّل آخر وينمو على مهل..
لكنّ موعد اكتمال البدر، لن يتنبّأ به أحد.

في اليوم الثالث للشهادة:
السارية صارت جذراً تخيّر عمقه بإرادته واختياره
الطريق غير المرصوفة بحسابات الخسارة تكاثَرت مساربها
العتق من الذلّ غدا نهجاً يُحتذى وقصة تُروى وتفاصيل تُتداول
المدينة التي تحفظ الودّ لأنبل فرسانها باتت أكثر دراية بأصول احتضانهم
خيبة الطارئين على المراحل تخشى لسع المفاجآت، ورهبة النجمة السداسية في مستوطنة (الكريات) ارتسمت حدوداً لا تُمحى.

 

المقاومة لا تنشأ من الفراغ!

المقاومة لا تنشأ من الفراغ!

لمى خاطر
 

الأيام الطويلة نسبياً التي عشناها كفلسطينيين في ظلال بركات المقاومة خلال العدوان على غزة يفترض أن تكون قد منحتنا وعياً بمصادر قوتنا وأسباب صمود جبهة غزة واستعصائها على الاختراق للمرة الثالثة خلال ست سنوات فقط.. حيث كانت المرةُ الأخيرة الأخطرَ والأصعب، خلافاً لما توقّع كثيرون. ذلك أنها هذه المرة خاضت الحرب وهي مستنزفة بأعتى درجات الحصار، ومكشوفة الظهر من كل الجهات إلا من جهة جبهتها الداخلية، بعد أن تخلى عنها داعموها القدامى، أضف إلى ذلك أنها كانت تواجه حلفاً تجنّدت فيه أطراف عربية إلى جانب الاحتلال، في ظل حملة استئصال واسعة تستهدف التيارات الحرة في الأمة كلّها منذ الانقلاب في مصر.

فالحرب على غزة، كما في عواصم عربية أخرى؛ تُشنّ على مظاهر النماء في الأمة، على مواطن التفوّق، على بوادر الصحوة، على براعم النهوض، وعلى التجارب والحالات والظواهر غير الخاضعة لاعتبارات الوصاية وبيع المواقف.

وغزة، بحماسها وسلاحها وجمهور المقاومة فيها، بدت بعد الحرب بؤرة تفوّق وتمرّد كبرى، لا يسهل إخضاعها لمخططات الترهيب أو الترغيب، ولا استحداث أجسام فيها مؤهلة لافتعال أزمات داخلية، ولذلك سيجري الرهان في أوقات إغماد السلاح على إفراغ طاقتها من الصبر، وعلى محاولات ابتزازها بلقمة عيشها، وعلى إخضاع مشاريع إعادة الإعمار لاشتراطات المجتمع الدولي، والإقليم العربي المتورّط بدعم الثورات المضادة المناوئة لإرادة التغيير، فالتغيير ليس عدو الدول ذات العقلية الاستعمارية وحسب، بل جالب الهواجس والكوابيس لدى ممالك القهر والجمود في أوطاننا العربية كلها.

تبدو الإشكالية اليوم في أن هناك من الفلسطينيين الداعمين لخط المقاومة وخيارها من يرى أن مهمته تقتصر على تشجيع المقاومة وتبيان فضائلها وهي تقصف تل أبيب وتقتحم حصون المستوطنين وتوقع الإصابات اليومية في وحدات نخبة جيش الاحتلال. لكنه سرعان ما يرتدّ إلى لامبالاته أو هجائه لكل التنظيمات بلا تمييز إذا ما وضعت الحرب أوزارها، وكأنه يفترض أن المقاومة تُستحدث من الفراغ، وتهبط صلبةً بلا مقدمات، وبدون بيئة حاضنة ونهج سياسي راعٍ لتطورها، وبلا جهد في توفير عناصر النجاح لها، ولذلك نجد ذلك الصنف الانتقائي من جمهور المقاومة لا يلبث أن يقع ضحية لإفرازات الأزمات المفتعلة في غزة، فيتجاهل دوافعها وأسبابها الحقيقية، ويساهم في التركيز على النتائج محملاً لومه للطرف القوي فيها أي حركة حماس، رغم أنها ليست المتسبب في الأزمة ولا العنوان الذي يتوجّب إدانته وتعرية دوره، فتكون النتيجة إضافة ضغوط أخرى على حالة المقاومة ككل، المتركزة اليوم في ساحة غزة، مع تناسي أن المقاومة صمدت وتطورت لأنها لم تخضع لابتزاز محاصريها، ولم تغامر باستجلاب المشبوهين وتمكينهم من مفاصل الحكم والقرار، فالبيئتان السياسية والاجتماعية مقوّمان أساسيان للمقاومة المبصرة والمنضبطة والنظامية، والخلل الناشئ فيهما سينعكس بالسلب حتماً على وضع مقاومة تجابه عدواً يتفوق عليها عسكرياً ويملك محاصرتها جغرافياً واقتصادياً حينما يسجّل إخفاقاً عسكرياً جديداً في محاولات إفنائها.

من ينحاز لخيار المقاومة ينبغي أن يكون بارّاً بجميع مقومات نهوضها وموجبات صمودها، سواء أكان فرداً أم تنظيماً مساهماً فيها، لكنّ تخيّر ما يناسبه منها، أو الالتصاق بها لنيل بعض أمجادها فهي شيمة أقرب للانتهازية منها للمبدئية، ومن يرى نفسه شريكاً في مكاسب المقاومة المعنوية، ينبغي أن يكون شريكاً في مغارمها أيضا، وفي حمل جانب من همومها الواسعة، والذود عنها كحالة متكاملة لها استحقاقات كثيرة لا تقتصر فقط على العمل العسكري. لأنه لو تمعّن في دلالات مشهد ساحة أخرى تُجرّم فيها المقاومة ويصادر فيها سلاحها، لأدرك ضرورة أن يحفظ لرعاة المقاومة معروفهم، وأن يحافظ على مكتسبات الساحة الناهضة بها، بعيداً عن المزاجية والانسحابية التي نراها تتجلّى حينما يوضع طرف بعينه في عنق الزجاجة، ويكون مطلوباً منه وحده أن يتعامل مع إدارة حياة الناس في ظلّ الحصار، إلى جانب رعايته وحمايته مشروع المقاومة، الذي يُفترض أنه لا يخصّه وحده.