المقاومة لا تنشأ من الفراغ!
لمى خاطر
الأيام الطويلة نسبياً التي عشناها كفلسطينيين في ظلال بركات المقاومة خلال العدوان على غزة يفترض أن تكون قد منحتنا وعياً بمصادر قوتنا وأسباب صمود جبهة غزة واستعصائها على الاختراق للمرة الثالثة خلال ست سنوات فقط.. حيث كانت المرةُ الأخيرة الأخطرَ والأصعب، خلافاً لما توقّع كثيرون. ذلك أنها هذه المرة خاضت الحرب وهي مستنزفة بأعتى درجات الحصار، ومكشوفة الظهر من كل الجهات إلا من جهة جبهتها الداخلية، بعد أن تخلى عنها داعموها القدامى، أضف إلى ذلك أنها كانت تواجه حلفاً تجنّدت فيه أطراف عربية إلى جانب الاحتلال، في ظل حملة استئصال واسعة تستهدف التيارات الحرة في الأمة كلّها منذ الانقلاب في مصر.
فالحرب على غزة، كما في عواصم عربية أخرى؛ تُشنّ على مظاهر النماء في الأمة، على مواطن التفوّق، على بوادر الصحوة، على براعم النهوض، وعلى التجارب والحالات والظواهر غير الخاضعة لاعتبارات الوصاية وبيع المواقف.
وغزة، بحماسها وسلاحها وجمهور المقاومة فيها، بدت بعد الحرب بؤرة تفوّق وتمرّد كبرى، لا يسهل إخضاعها لمخططات الترهيب أو الترغيب، ولا استحداث أجسام فيها مؤهلة لافتعال أزمات داخلية، ولذلك سيجري الرهان في أوقات إغماد السلاح على إفراغ طاقتها من الصبر، وعلى محاولات ابتزازها بلقمة عيشها، وعلى إخضاع مشاريع إعادة الإعمار لاشتراطات المجتمع الدولي، والإقليم العربي المتورّط بدعم الثورات المضادة المناوئة لإرادة التغيير، فالتغيير ليس عدو الدول ذات العقلية الاستعمارية وحسب، بل جالب الهواجس والكوابيس لدى ممالك القهر والجمود في أوطاننا العربية كلها.
تبدو الإشكالية اليوم في أن هناك من الفلسطينيين الداعمين لخط المقاومة وخيارها من يرى أن مهمته تقتصر على تشجيع المقاومة وتبيان فضائلها وهي تقصف تل أبيب وتقتحم حصون المستوطنين وتوقع الإصابات اليومية في وحدات نخبة جيش الاحتلال. لكنه سرعان ما يرتدّ إلى لامبالاته أو هجائه لكل التنظيمات بلا تمييز إذا ما وضعت الحرب أوزارها، وكأنه يفترض أن المقاومة تُستحدث من الفراغ، وتهبط صلبةً بلا مقدمات، وبدون بيئة حاضنة ونهج سياسي راعٍ لتطورها، وبلا جهد في توفير عناصر النجاح لها، ولذلك نجد ذلك الصنف الانتقائي من جمهور المقاومة لا يلبث أن يقع ضحية لإفرازات الأزمات المفتعلة في غزة، فيتجاهل دوافعها وأسبابها الحقيقية، ويساهم في التركيز على النتائج محملاً لومه للطرف القوي فيها أي حركة حماس، رغم أنها ليست المتسبب في الأزمة ولا العنوان الذي يتوجّب إدانته وتعرية دوره، فتكون النتيجة إضافة ضغوط أخرى على حالة المقاومة ككل، المتركزة اليوم في ساحة غزة، مع تناسي أن المقاومة صمدت وتطورت لأنها لم تخضع لابتزاز محاصريها، ولم تغامر باستجلاب المشبوهين وتمكينهم من مفاصل الحكم والقرار، فالبيئتان السياسية والاجتماعية مقوّمان أساسيان للمقاومة المبصرة والمنضبطة والنظامية، والخلل الناشئ فيهما سينعكس بالسلب حتماً على وضع مقاومة تجابه عدواً يتفوق عليها عسكرياً ويملك محاصرتها جغرافياً واقتصادياً حينما يسجّل إخفاقاً عسكرياً جديداً في محاولات إفنائها.
من ينحاز لخيار المقاومة ينبغي أن يكون بارّاً بجميع مقومات نهوضها وموجبات صمودها، سواء أكان فرداً أم تنظيماً مساهماً فيها، لكنّ تخيّر ما يناسبه منها، أو الالتصاق بها لنيل بعض أمجادها فهي شيمة أقرب للانتهازية منها للمبدئية، ومن يرى نفسه شريكاً في مكاسب المقاومة المعنوية، ينبغي أن يكون شريكاً في مغارمها أيضا، وفي حمل جانب من همومها الواسعة، والذود عنها كحالة متكاملة لها استحقاقات كثيرة لا تقتصر فقط على العمل العسكري. لأنه لو تمعّن في دلالات مشهد ساحة أخرى تُجرّم فيها المقاومة ويصادر فيها سلاحها، لأدرك ضرورة أن يحفظ لرعاة المقاومة معروفهم، وأن يحافظ على مكتسبات الساحة الناهضة بها، بعيداً عن المزاجية والانسحابية التي نراها تتجلّى حينما يوضع طرف بعينه في عنق الزجاجة، ويكون مطلوباً منه وحده أن يتعامل مع إدارة حياة الناس في ظلّ الحصار، إلى جانب رعايته وحمايته مشروع المقاومة، الذي يُفترض أنه لا يخصّه وحده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق