الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

الاستيطان برعاية فلسطينية!



الاستيطان برعاية فلسطينية!
لمى خاطر


كان طبيعياً أن يصل الحال إلى هذه النتيجة الشنيعة، أي أن تصبح هناك منظّمات استيطانية متطرفة تمارس عمليات إرهابية شبه يومية في الضفة الغربية والقدس، فمشروع الاستيطان فيهما انتعش وتضخم بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد استتباب الأمن والغياب القسري لعمليات المقاومة في الضفة والقدس، والمستوطنات الصغيرة غدت مدناً كبرى، وإحصائيات المشهد الاستيطاني تتجاوز كثيراً ما هو معلن، لدرجة أن تعبير (سرطان الاستيطان) لم يعد يكفي لوصف واقعه، إذ يكفي أن تسافر من جنوب الضفة إلى شمالها لتقف على حقيقة الكارثة، حيث تزاحمك سيارات المستوطنين في جميع الشوارع، وبأعداد مهولة، وحيث لا تجد تلة أو جبلاً أو موقعاً جالباً للأنظار إلى وتشخص قربه وحدات سكنية استيطانية أو يكون مصادراً وفي طريقه للتحول إلى مستوطنة جديدة.

منذ أن حلّ مطلب (تجميد الاستيطان) مكان إزالته في مفاوضات التسوية، كان مفهوماً أن هناك خديعة كبرى يجري التعاطي بغباء معها، ولامبالاة بمآلاتها، وأن دولةً فلسطينية خالية من المستوطنات باتت جزءاً من أوهام الماضي، ولعل سكان الضفة الغربية والقدس هم أكثر من يدركون أن الدولة الفلسطينية باتت أكذوبة كبرى، لأن كل مدينة أو بلدة كبيرة فيها يوجد ما يوازيها ويجاورها من التجمعات الاستيطانية الواسعة، فحتى لو خلُصت أية تسوية إلى توجّه يلزم إسرائيل بتجميد الاستيطان، فإنه لا مجال أبداً لإزالة ما هو قائم أو تفكيكه. وكيان الاحتلال يعرف ذلك تماماً ومعه المجتمع الدولي، أما ضحايا الخديعة فهم فقط من يراهنون على أن تحرّكاً دبلوماسياً يتم تصويره معارك كبرى يمكن أن يجلب لهم الدولة ويكنس الاستيطان وينهي الاحتلال!

أما المعضلة الأساسية في فلسطين، وتحديداً في أماكن سيطرة السلطة فهي أنها مطالبة بتوفير الأمن للمستوطنين والمستوطنات، وضمان إبقاء الشارع الفلسطيني هادئاً ومشلول الحركة بعد كلّ جريمة ترتكبها العصابات الصهيونية المنظمة، وكيف لها ألا تكون منظمة وهي ترى نفسها ذات بأس وقوة مقابل مجموع الشعب الفلسطيني الأعزل في هذه المناطق، والذي يبدو عاجزاً عن دفع الأذى عن أراضيه الزراعية وممتلكاته إن تعرضت لعدوان أو حريق، فضلاً عن جرائم المساس المباشر بالسكان؟!

يحدث هذا وسيحدث أكثر في ظل اختلال معادلة القوة ومداها، وفي ظل اليقين المتعاظم في صفوف المراقبين في كيان الاحتلال بأن السلطة كفيلة بإجهاض أية هبة غاضبة عقب كل جريمة من جانب المستوطنين، وفي ظل معاينتهم حجم الوفاء لالتزامات التنسيق الأمني من قِبل محمود عباس وسلطته.

وكيان الاحتلال الذي يراقب المشهد وتدهشه خلاصات الأحداث في مناطق السلطة لن يكون معنياً بردع المنظمات الاستيطانية المتطرفة، ولماذا يفعل وهو يرى أن عملها يساهم في تعزيز حالة الإخضاع للوعي الفلسطيني، وفي تثبيت الحالة الاستيطانية على أرض الواقع كحقيقة غير قابلة للمساس، ما دام أعلى سقف للمطالبات الفلسطينية الرسمية هو تجميد الاستيطان، وأبعد مدى لأفقها بُعيد أية جريمة هو إطلاق وعود بالتوجه لمحكمة الجنايات الدولية وتكثيف الحراك الدبلوماسي!

وحده الخروج من قيد اللحظة إلى رحابة الواجب من سيتكفّل بإزالة شيء من هذا التشوّه عن وجه المرحلة، لأنها تعدّ الأسوأ والأقذر على مرّ تاريخ الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، حيث بات لهذا الاحتلال ذراع فلسطينية ترسم توجّهاته بإرادتها وجهلها في الوقت ذاته، وحيث تضاءلت الأثمان التي يدفعها مقابل احتلاله واستيطانه، وارتفع منسوب إملاءاته على أرض الواقع، حتى لم يبقَ من مفهوم الدولة الأكذوبة سوى تلك الكانتونات الضيقة التي ينحشر فيها الفلسطينيون، في ظل قيادة احترفت قهر إرادة الفلسطيني وطموحه بالحرية على نحو من النذالة غير مسبوق.

الثلاثاء، 11 أغسطس 2015

نفير الأسرى وإضرابهم



نفير الأسرى وإضرابهم
لمى خاطر


من جديد؛ تعود سجون الاحتلال وما يجري فيها إلى صدارة المشهد الفلسطيني، ويعود معها إصرار الأسرى على رفع لواء الكرامة من داخل الزنازين، وتحدي إجراءات الاحتلال الأخيرة الرامية إلى فرض سياسات التضييق عليهم والعقاب الجماعي، وحملهم على العيش في ظروف سيئة وعلى التسليم بأن المحتل ما زال يملك اليد العليا وأن قوّته غير قابلة للهزيمة، لا سيّما بعد أن بات معروفاً أن نضالات الحركة الأسيرة على مرّ تاريخها كانت كفيلة بتحصيل كل الحقوق الإنسانية – ولو في حدّها الأدنى – من بين براثن السجان.

إجراءات التضييق الأخيرة التي ينتهجها الاحتلال بحق الأسرى تأتي إفرازاً لأزماته العديدة على صعيد هذه القضية، كإضرابات الأسرى داخل السجون - فرديةً كانت أم جماعية – وضربة الانكسار التي تعرّض لها عقب عملية وفاء الأحرار التي تحرر بموجبها نحو 2030 أسيراً من سجون الاحتلال، ثم ما رشح من نتائج لحرب العصف المأكول على صعيد أسرى الاحتلال لدى كتائب القسام، وهو تطوّر يعني أن الاحتلال سيضطر عاجلاً أم آجلاً للخضوع لمقتضيات هذه الحالة ثم التفاوض للإفراج عن أسراه مقابل أسرى فلسطينيين، وهو يعني أن لاءات إسرائيلية جديدة سيتم كسرها وتجاوزها، وسيكون الاحتلال مجبراً على دفع أثمان أعلى من السابق إن تبيّن أن هناك مفاجآت على صعيد عدد وحالة أسراه لدى كتائب القسام.

واليوم، يحاول الاحتلال الاستفراد بالأسرى لديه في السجون وفرض سياسة الأمر الواقع عليهم، وإرغامهم على الكفّ عن كل مظاهر الإضراب والعصيان داخل السجون، إضافة إلى محاولاته تصعيد العقوبات وسياسات التضييق عليهم بحيث تكون هذه القضايا المطلبية على طاولة تفاوض صفقة التبادل مع المقاومة في المستقبل، لكي تكون بديلاً عن مطالب أخرى تراها المقاومة أكثر أهمية.

وحين يُشرع الأسرى لواء تمرّدهم من داخل السجون، فهذا يعني أنهم يرفضون التماشي مع إملاءات المحتل وسياساته الجديدة، وهو ما يتطلب من حركة الميدان أن تكون مساندة وجاهزة للتصعيد، بحيث يكون هناك صدى لصرخة الزنازين يتجلى في الميدان داخل فلسطين وفي الإعلام والمتابعات السياسية والحقوقية على صعيد خارج فلسطين.

لكن الميدان يحمل الضمانة الأهم لنصرة الأسرى في معركتهم الجديدة، والتي لن تكون الأخيرة، إذ بمقدار ما يُبديه من حمل للقضية وجعلها عنواناً للتصعيد مع الاحتلال، سيحسب الأخير حساب المآلات، خصوصاً مع اليقين بمدى حرصه على بقاء الميدان ساكناً ومشلول الإرادة.

لكن الخشية الآن هي من كونه –أي الاحتلال – قد اطمأن إلى أن حراك الميدان سيظل ضئيلاً ومعزولاً وغير قابل للتصعيد، وذلك بناء على تجارب سابقة، رغم أن الحراك الميداني الذي رافق الإضراب السابق عام 2014 كان جيداً إلى حدّ ما، لكنه لم يصل مرحلة التهديد الواسع لأمن الاحتلال وحمله على دفع الثمن، باستثناء عملية أسر المستوطنين في الخليل، التي جاءت بعد تنكّر الاحتلال لمطالب الأسرى واستمرار الإضراب لنحو شهرين، وهو أطول إضراب جماعي في تاريخ الحركة الأسيرة.

الشارع الفلسطيني بات أمام اختبار جديد، تجاه قضيته ومسؤولياته الكبرى نحوها وعلى رأسها قضية الأسرى، مضافاً إليها قضية انتهاك الأقصى واعتداءات المستوطنين اليومية في مناطق الضفة الغربية، والأيام القادمة كفيلة بأن تفرز نتيجة هذا الاختبار، بجميع أبعاده.

الاثنين، 3 أغسطس 2015

على صفيح ساخن، وخارج دائرة الفعل



على صفيح ساخن، وخارج دائرة الفعل
لمى خاطر



للوهلة الأولى يبدو أن العنوان يحمل تناقضاً أو تغريداً في اتجاهين متعاكسين، لكننا حين نسقطه على واقع الضفة الغربية اليوم، ومنذ سنوات، سنجد أن هذا هو ملخّص حالها، فعوامل الانفجار وضرورات المجابهة فيها قائمة، لكن يديها مكبّلتان وفعلها بطيء ومتناثر، وهو ما أفرز حالة من الجمود العام أشلّت جميع مفاصل التحرّك فيها.

في شهر أكتوبر من العام الماضي (2014) وعقب الاقتحامات الصهيونية المستمرة للمسجد الأقصى بدأت تتشكل ظاهرة العمليات الفردية في القدس والضفة، وتوزّعت ما بين طعن ودهس وعمليات إطلاق نار بسلاح غير متطور، ورغم كثرة هذه العمليات وتتابعها إلا أنها لم تكن كافية لتحدث فارقاً يؤسس في الوعي قناعة بأن مقاومة الضفة قد استعادت زمام المواجهة، رغم أنه لو كان متاحاً لكل واحد من أولئك الأبطال منفذي العمليات الفردية أن يحوز حزاماً ناسفاً أو يمتلك سلاحاً متطوراً لكان الأثر المتشكّل من تكرار تلك العمليات ضخماً وواسعا، ولكانت الضفة الآن على أبواب مرحلة جديدة مختلفة المعالم، والأمر ذاته ينطبق على عديد الخلايا التي تشكّلت في السنوات الأخيرة ولم تتمكن من تنفيذ أكثر من عملية قبل اكتشافها، أو عاجلتها يد مخابرات الاحتلال أو التنسيق الأمني وهي في طور النشوء وقبل أن تترجم فعلها على الأرض.

واقع الضفة اليوم سبق أن لخصه أحد الأسرى حين قال "إن من يطالبها بفعل الإنجازات القتالية كمن يطالب سيارة بلا وقود بالتحرك"، والوقود الذي تعوزه الضفة الآن هو السلاح والخبرات التصنيعية العسكرية وأدواتها المختلفة، إلى درجة أن بعض المبيدات الزراعية محظورة بقرار من الاحتلال والسلطة لمجرد أنها قد تستخدم في تصنيع المتفجّرات.

ولذلك تبدو المقارنة بين حالَي الساحتين الساخنتين في فلسطين (أي الضفة وغزة) عبثية وغير مجدية ولا نتيجة لها سوى تعزيز النعرة المناطقية، لأن المقاومة كفعل جهادي لا علاقة لها بخصائص السكان أو اسم المكان، بل بمنهجها أولاً ثم الظروف الأمنية والسياسية والميدانية المتوفرة في كل ساحة، ولذلك قلنا إن الفعل الجهادي ابن منهجه وليس ابن ساحته، ولذلك أيضاً تطورت المقاومة في غزة في ظل حماس وبعد تحرير غزة، وانكفأت في الضفة نتيجة القرار المزدوج بإجهاضها من قبل الاحتلال وسلطة فتح، التي ترى أن المقاومة عامل تدمير ذاتي للشعب ومقدراته، كما صرح محمود عباس أكثر من مرة.

ولذلك أيضا، فقد تنبّه بيريس خلال حرب غزة إلى عنصر السيطرة وأجندة السلطة الحاكمة في كل ساحة حين قال "إن الحل الوحيد مع غزة هو أن يحكمها شخص مثل محمود عباس"، وهذا لأن أجندة اتفاق أوسلو من شأنها أن تشوّه معالم أية مرحلة وأن تعيق نهوض طلائعها حينما تتمكن وتسيطر.

فالمقارنة والتوقعات من كل ساحة ينبغي أن تأخذ بالاعتبار اختلاف الواقعين السياسي والجغرافي والأمني والميداني، وهي كلها أمور تغيب عن بال السطحيين الذين امتهنوا الهجاء والمزايدات وإطلاق المطالبات، وصولاً إلى الاعتقاد بأن المقاومة في الضفة تملك ما تقدمه لمشروع التحرر من الاحتلال أو الرد على جرائم المستوطنين، لكنها تمتنع عن ذلك أو تجبن عنه!

وهنا علينا أن نتذكر أنه حين كان الحال متشابهاً إلى حد ما بين واقعي غزة والضفة، أي حتى ما قبل عام 2007، كان الفعل الجهادي هنا وهناك متوازياً ومتساويا، بل إن الضفة تفوقت في العمليات الاستشهادية التي كانت توقع خسائر كبيرة في صفوف المغتصبين الصهاينة، وهذا التفوّق أيضاً لم يكن بسبب أفضليتها في ذلك، بل لظروفها الجغرافية وإمكانية وصول استشهادييها إلى عمق المدن المحتلة، وذلك قبل عملية السور الواقي الصهيونية التي عملت على تصفية رموز الخلايا المسلّحة بالتدريج، وصولاً إلى استقدام مشروع (دايتون) إلى الضفة، بعد إخفاقه في غزة.

كل هذه الاعتبارات تغيب في مواقف الغضب وما يعقبها من هجائيات جماعية، وتجعل المشكلة في خصائص السكان في ساحة الضفة، فيما يتم تحييد خصائص أو منهج السلطة الحاكمة وإغفال خطورة دورها وكيف أنها تملك كثيراً من مفاتيح التغيير، والتطور أو التراجع للمجتمع، وتملك - لو أرادت - أن تحيّد الفئة المتخاذلة في المجتمع وتعلي من شأن المقاومة ثقافةً وسلوكا، ولذلك قلّ أن يدرك كثيرون بأنّ الإشكالية القائمة في المشهد الفلسطيني ليست مناطقية، وأن السر ليس في خصائص السكان، لأن هؤلاء السكان ليسوا كتلة واحدة ذات خصائص نفسية واحدة، بل إن السرّ في مجموع الظروف والسياسات التي تهيمن على كل ساحة، وتعلي من شأن المقاومة أو تطيح بها.

وما دام الظرف الميداني والسياسي كحاله الآن في الضفة، فليس لنا أن نتوقّع انتفاضة مماثلة لسابقتيْها، إلا أن امتلاك إرادة الفعل لدى نخبة المقاومة في المجتمع من شأنها أن تُفضي إلى أشكال وآليات مختلفة في مواجهة الاحتلال، وهي أشكال قد تظلّ محل استخفاف ما دام الرأي العام مطبوعاً على توقّع هبة شعبية تُشابه ما ألفه واعتاد عليه فقط.