على صفيح ساخن، وخارج دائرة الفعل
لمى خاطر
للوهلة الأولى يبدو أن العنوان يحمل تناقضاً أو تغريداً في اتجاهين
متعاكسين، لكننا حين نسقطه على واقع الضفة الغربية اليوم، ومنذ سنوات، سنجد أن هذا
هو ملخّص حالها، فعوامل الانفجار وضرورات المجابهة فيها قائمة، لكن يديها مكبّلتان
وفعلها بطيء ومتناثر، وهو ما أفرز حالة من الجمود العام أشلّت جميع مفاصل التحرّك
فيها.
في شهر أكتوبر من العام الماضي (2014) وعقب الاقتحامات الصهيونية
المستمرة للمسجد الأقصى بدأت تتشكل ظاهرة العمليات الفردية في القدس والضفة،
وتوزّعت ما بين طعن ودهس وعمليات إطلاق نار بسلاح غير متطور، ورغم كثرة هذه
العمليات وتتابعها إلا أنها لم تكن كافية لتحدث فارقاً يؤسس في الوعي قناعة بأن
مقاومة الضفة قد استعادت زمام المواجهة، رغم أنه لو كان متاحاً لكل واحد من أولئك
الأبطال منفذي العمليات الفردية أن يحوز حزاماً ناسفاً أو يمتلك سلاحاً متطوراً
لكان الأثر المتشكّل من تكرار تلك العمليات ضخماً وواسعا، ولكانت الضفة الآن على
أبواب مرحلة جديدة مختلفة المعالم، والأمر ذاته ينطبق على عديد الخلايا التي
تشكّلت في السنوات الأخيرة ولم تتمكن من تنفيذ أكثر من عملية قبل اكتشافها، أو عاجلتها
يد مخابرات الاحتلال أو التنسيق الأمني وهي في طور النشوء وقبل أن تترجم فعلها على
الأرض.
واقع الضفة اليوم سبق أن لخصه أحد الأسرى حين قال "إن من يطالبها
بفعل الإنجازات القتالية كمن يطالب سيارة بلا وقود بالتحرك"، والوقود الذي
تعوزه الضفة الآن هو السلاح والخبرات التصنيعية العسكرية وأدواتها المختلفة، إلى
درجة أن بعض المبيدات الزراعية محظورة بقرار من الاحتلال والسلطة لمجرد أنها قد
تستخدم في تصنيع المتفجّرات.
ولذلك تبدو المقارنة بين حالَي الساحتين الساخنتين في فلسطين (أي
الضفة وغزة) عبثية وغير مجدية ولا نتيجة لها سوى تعزيز النعرة المناطقية، لأن
المقاومة كفعل جهادي لا علاقة لها بخصائص السكان أو اسم المكان، بل بمنهجها أولاً
ثم الظروف الأمنية والسياسية والميدانية المتوفرة في كل ساحة، ولذلك قلنا إن الفعل
الجهادي ابن منهجه وليس ابن ساحته، ولذلك أيضاً تطورت المقاومة في غزة في ظل حماس وبعد
تحرير غزة، وانكفأت في الضفة نتيجة القرار المزدوج بإجهاضها من قبل الاحتلال وسلطة
فتح، التي ترى أن المقاومة عامل تدمير ذاتي للشعب ومقدراته، كما صرح محمود عباس
أكثر من مرة.
ولذلك أيضا، فقد تنبّه بيريس خلال حرب غزة إلى عنصر السيطرة وأجندة
السلطة الحاكمة في كل ساحة حين قال "إن الحل الوحيد مع غزة هو أن يحكمها شخص
مثل محمود عباس"، وهذا لأن أجندة اتفاق أوسلو من شأنها أن تشوّه معالم أية
مرحلة وأن تعيق نهوض طلائعها حينما تتمكن وتسيطر.
فالمقارنة والتوقعات من كل ساحة ينبغي أن تأخذ بالاعتبار اختلاف
الواقعين السياسي والجغرافي والأمني والميداني، وهي كلها أمور تغيب عن بال
السطحيين الذين امتهنوا الهجاء والمزايدات وإطلاق المطالبات، وصولاً إلى الاعتقاد
بأن المقاومة في الضفة تملك ما تقدمه لمشروع التحرر من الاحتلال أو الرد على جرائم
المستوطنين، لكنها تمتنع عن ذلك أو تجبن عنه!
وهنا علينا أن نتذكر أنه حين كان الحال متشابهاً إلى حد ما بين واقعي
غزة والضفة، أي حتى ما قبل عام 2007، كان الفعل الجهادي هنا وهناك متوازياً
ومتساويا، بل إن الضفة تفوقت في العمليات الاستشهادية التي كانت توقع خسائر كبيرة
في صفوف المغتصبين الصهاينة، وهذا التفوّق أيضاً لم يكن بسبب أفضليتها في ذلك، بل
لظروفها الجغرافية وإمكانية وصول استشهادييها إلى عمق المدن المحتلة، وذلك قبل
عملية السور الواقي الصهيونية التي عملت على تصفية رموز الخلايا المسلّحة
بالتدريج، وصولاً إلى استقدام مشروع (دايتون) إلى الضفة، بعد إخفاقه في غزة.
كل هذه الاعتبارات تغيب في مواقف الغضب وما يعقبها من هجائيات جماعية،
وتجعل المشكلة في خصائص السكان في ساحة الضفة، فيما يتم تحييد خصائص أو منهج
السلطة الحاكمة وإغفال خطورة دورها وكيف أنها تملك كثيراً
من مفاتيح التغيير، والتطور أو التراجع للمجتمع، وتملك - لو أرادت - أن تحيّد
الفئة المتخاذلة في المجتمع وتعلي من شأن المقاومة ثقافةً وسلوكا، ولذلك
قلّ أن يدرك كثيرون بأنّ الإشكالية القائمة في المشهد
الفلسطيني ليست مناطقية، وأن السر ليس في خصائص السكان، لأن هؤلاء السكان ليسوا
كتلة واحدة ذات خصائص نفسية واحدة، بل إن السرّ في مجموع الظروف والسياسات
التي تهيمن على كل ساحة، وتعلي من شأن المقاومة أو تطيح بها.
وما دام الظرف الميداني والسياسي كحاله الآن في الضفة، فليس لنا أن
نتوقّع انتفاضة مماثلة لسابقتيْها، إلا أن امتلاك إرادة الفعل لدى نخبة المقاومة
في المجتمع من شأنها أن تُفضي إلى أشكال وآليات مختلفة في مواجهة الاحتلال، وهي
أشكال قد تظلّ محل استخفاف ما دام الرأي العام مطبوعاً على توقّع هبة شعبية تُشابه
ما ألفه واعتاد عليه فقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق