الحسم في مواجهة التسويات
لمى خاطر
رغم أنها مرحلة تحوّل وتغيّر مستمرين، إلا أنه يمكن القول إن هذه
الفترة من عمر الأمة هي مرحلة الحسم في كل الاتجاهات والساحات، وليس التسويات، ذلك
أن الاصطفافات بلغت أوج حدتها داخل الأمة، حتى وبعضها يمتد إلى التحالف مع جهات خارجية
في سبيل كسر شوكة الطرف الآخر أو التمكين لمشروع ذاتي.
فمن كان يتوقّع مثلاً أن تنكشف طائفية الحلف السوري الإيراني في
المنطقة إلى الدرجة التي تسوّغ انضمامهم غير المعلن إلى الحلف الدولي الذي تتزعمه
أمريكا في مواجهة ما يسمى بإرهاب تنظيم الدولة وبعض الفصائل الأخرى على الساحة
العربية؟ وأن تتهاوى شعارات (الموت لأمريكا) بمثل هذا الانكشاف حين تتحول عناصر
هذا الحلف إلى القتال داخل ساحة الأمة وليس في وجه المستعمر الخارجي!
ومن كان يتوقّع أن يمنى الربيع العربي بشكله السلمي بمثل هذه
الانتكاسة الكبرى، وأن يتحوّل جزء ممن التحقوا بركبه في البداية إلى صفوف الدولة
العميقة في جميع الساحات، ليكونوا أدوات في أيدي الانقلابات على التجارب
الديمقراطية، سواء أكانت انقلابات دموية سافرة أم مقنّعة أم التفافية!
هذا الواقع الذي ما عاد يحتمل المساحات الرمادية، يفترض ألا يستوعب
كذلك مواقف رمادية قد تنخدع بلغة التسويات من طرف مناهضي إرادة التغيير، لأن هذه
اللغة لا تُستدعى إلا حينما يفشل أعداء التغيير والثورات في إقصاء حالة أو تجنب
إفرازات أخرى، بينما تجدها تغيب مثلاً حين يصل تيار إسلامي إلى الحكم من بوابة
صناديق الاقتراع، ليكون خيار إفشاله والتآمر على إقصائه نهجَ معظم أو جميع
معارضيه، سواء أكانوا من أركان الدولة العميقة أم من المنتسبين للتيارات
الليبرالية والعلمانية. أما مع تعاظم قوة وحضور التيارات الجهادية العنيفة تبرز
محاولات لمغازلة التيارات ذات النهج الإصلاحي المتدرج المؤمن بآليات الدولة
الحديثة في ممارسة الحكم، لكن هذا الغزل يستبطن محاولات لاستخدام أدوات إضافية في
ضرب عنف التيارات الجهادية، التي تبدو الآن حالة مقلقة لأمريكا وأدواتها في
المنطقة، ولأصحاب الأجندات الطائفية في إيران والعراق وسوريا واليمن وغيرها.
ومع الإقرار بخطورة الغلوّ وشدة العنف في فكر وسلوك تلك التيارات
وتحديداً تنظيم الدولة، إلا أنه في المقابل سيكون من السذاجة الخطيرة التجنّد في
الحلف المناوئ له استناداً إلى الاعتقاد بأن خطره يفوق خطر أصحاب مشاريع التطهير الطائفي،
أو المستعمر الخارجي. ولذلك، فالحرب على التنظيم ليست حرب رواد الثورات وطلاب
التغيير في ساحاتنا العربية، فهؤلاء عليهم استكمال طريقهم نحو التحرر، دون
الانخداع بإمكانية إبرام تسوية مع الطغاة، الذين سيبدؤون بالأنين والبحث عن مخارج
مواربة إن واجههم عنف لا قبل لهم به من قبل التيارات الجهادية ذات المنهج الشمولي
في التغيير.
وثمة حقيقة يهرب كثيرون من مواجهتها وهي أن الطغيان السافر لا يواجهه
إلا عنف مثله أو يتفوّق عليه، وإن كان هناك من يتحفّظ على استخدام أدوات عنفية في
صراعه لأجل الحرية، فله أن يكمل مسيرته بأدواته التي ارتضاها، ولكن عليه الحذر من
التحوّل لبيدق في يد من سيسعى لاستخدامه لضرب منتهجي العنف في مواجهة الطغيان، أو
للانشغال بهم والتغافل عن فعل الإجرام الكبير الذي يملأ فجاج الأرض، حتى كاد يطال
جميع الساحات العربية، التي يراد إعادة شعوبها مجددا إلى حظيرة العبودية واسترقاق
الكرامة والحقوق.
النزيف في أمتنا سيطول أمده، لكنه يبدو الخيار الوحيد الذي دُفعت له
حين أشرعت راية نضالها في وجه الطغاة، ولكن نقيضه لا يمكن أن يكون حلولاً سياسية
تسكينية تطيل أمد الظالم وتديم معاناة المظلومين، لأن هذا الخيار ما عاد قابلاً
للتطبيق إلا إن تنازل المظلوم عن جميع حقوقه وارتضى إملاءات واقع القوة سواءً من
قبل الطغاة التقليديين أو الطغاة الطائفيين، والذين تلاقت مصالحهم في هذه المرحلة
لكنس حالة الربيع العربي ووأد تطلعاتها وإحلال واقع أخطر من سابقه، بالاستفادة من
حالة التفكك الحاصلة في نسيج الأمة، لأنه بات واضحاً أن هناك من يستغل هذه الثغرات
للنفاذ إلى جسد الأمة، فلا أقل من أن يرفض الأحرار والمبصرون أن يكونوا أدوات له،
إن صعُب عليهم مواجهته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق