الأربعاء، 30 مارس 2016

أمّهات ونعوش



أمّهات ونعوش
لمى خاطر






كانت البداية مع والدة الشهيد عامر أبو عيشة من الخليل، الذي شارك مع رفيق دربه مروان القواسمة في أسر ثلاثة من المستوطنين شمال المدينة في حزيران 2014. ففي جنازته عقب اغتياله أبت والدته إلا أن تحمل جثمانه وتشيّعه بنفسها إلى قبره، رغم ما كان يكتنف لحظة الاغتيال المفاجئة من صدمة وحزن وفجيعة خلفتها تلك الحالة التي ترك إجرام الاحتلال الشهيد عليها، بعد أن حرقته قاذفاتهم وقنابلهم فشوّهوا معالمه.

بعد ذلك، تتابعت مشاهد مشاركة الأمهات في حمل نعوش أبنائهن الشهداء، وخصوصاً في مدينة الخليل، صاحبة الرصيد الوافر من شهداء هذه الانتفاضة، وكان المرء يطالع بين ثنايا الدم والأجساد المحمولة على الأكناف نماذج فريدة لنساء عاديات وغير مشهورات، لكنهنّ ارتقين مرتقىً صعبا، وقدّمن دروساً في غاية الجلال حول معاني التضحية والصبر والاحتساب.

رسالة الصمود والسموّ هذه لم تأتِ من فراغ، ولم تنتظم حروفها فجأة، بل تشكّلت نتيجة عقيدة راسخة ويقين متين وإدراك عمليّ بأن الشهيد حي عند الله، وأن المجاهد حين يقضي شهيداً يستحق فخر الأم واعتزازها، وهو ما لا يتناقض مع مشاعر الأمومة الفطرية في الأسى والحزن لرحيل الابن، لكنه يسلط الضوء على نوعية فريدة من النساء تفقه معاني الجهاد ومتطلباته، فعلاً لا قولا، ولا تجد ضيراً في أن تشيع ابنها بنفسها وهي موقنة بعظمة الشهادة وبركاتها، وبجزيل الثواب الذي ينتظر من يصبر ويحتسب ويتقبّل رحيل فلذة كبده في سبيل الله 
.
ورغم أن حزن الأم لفقدان ولدها أمر طبيعي ولا يقدح في عظمة تفهّمها لرسالة الجهاد ومتطلباتها، إلا أننا نجد من يتعامل مع هذه الظاهرة –في بعض الأحيان- تعاملاً آلياً، وخصوصاً وسائل الإعلام التي تركّز على قشور الظاهرة لا جوهرها، وتجري لترصد زغرودة أم الشهيد، وتحاول استنطاقها وهي في أصعب لحظاتها لكي تدلي بتصريح شكلي لوسائل الإعلام يخلو من العاطفة ويستجلب الإعجاب الشكلي أيضا.

إن كثيراً من المشاهد تكون كافية بذاتها لتدلل على مضامينها الجوهرية دونما حاجة للكلام، ومنها أن ترى أمّاً مكلومة تحمل جثمان ابنها، ومثلها أخرى لا تجتهد في حبس دموعها ولا تضطر لمراعاة أعراف الصورة الإعلامية، بل تتركها تنساب عند وداع ولدها، حتى وهي راضية محتسبة، ومعبّرة عن افتخارها بصنيعه، واعتزازها بأن أكرمها الله وجعلها والدة شهيد سينتظرها جزاء وافر في الآخرة.

إننا حين نُعلي من قدر تلك النماذج الفريدة من الأمهات أو الزوجات علينا ألا نتكلّف في تجاهل إنسانيّتهن، وألا نستسهل في الوقت نفسه رؤية مشهد الأم المتجلّدة وكأن خلافه يعني افتقاد من تبكي أو تظهر ألمها اليقين أو التسليم بقضاء الله أو وعي قيمة التضحية. وما زلتُ أذكر والدة الشهيد (محمد الجعبري) من الخليل، الذي استشهد في بداية انتفاضة القدس بعد تنفيذه عملية طعن قرب مستوطنة (كريات أربع)، إذ كانت ملامح الألم العميق بادية عليها يوم تشييع ولدها، لكنها فيما بعد، وحين كانت تشارك في زيارة ذوي الشهداء اللاحقين كانت تفاجئك بعظمة يقينها وعمق كلماتها وهي تواسي أمهات الشهداء وتتحدث عن قيم الفداء والبذل في سبيل الله وما يتصل بهما من تضحية وصبر واحتساب. فالمهم جوهر الرسالة التي تحويها ضلوع أمّ الشهيد، وتجلّيات مشاعرها وفهمها الحقيقية، وقبل كلّ ذلك تلك القيم التي أودعتها ابنها منذ صغره حتى غدا مقداماً لا يهاب الموت، وواعياً مسؤولياته الجهادية ومتطلّعاً لأن يكون له سهم في مسيرة المقاومة الطويلة، فالرجال الاستثنائيون لا ينجبهم ولا يربّيهم -في الغالب- إلا نساء استثنائيات.

الأربعاء، 16 مارس 2016

عن وهم تغيّر النظام الرسمي العربي



عن وهم تغيّر النظام الرسمي العربي
لمى خاطر


يخطئ كثيراً من لا يزال يعوّل على إمكانية أن يخرج من تحت عباءة النظام الرسمي العربي بكل مكوّناته فائدة حقيقية فيما يخص القضية الفلسطينية أو غيرها من القضايا العربية، أي فائدة تعود على قضايا الأمة بحل جذري وعلى إنسانها بما يلبي احتياجاته وأولوياته، وخصوصاً متعلّقات حريّته وكرامته، وليس أدلّ على استمرار حالة الانحدار لهذا النظام من تعيين (أحمد أبو الغيط) أميناً عاماً للجامعة العربية.

وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى زيارة وفد حماس الأخيرة للقاهرة ثم لغيرها من الدول العربية، إذ إن مجرد القول بأن الزيارة بحدّ ذاتها تعد اختراقاً لجدار القطيعة مع نظام السيسي لا ينطوي على قيمة حقيقية، فالمهم هو النتائج المتحصلة من الزيارة أو الجولة وليس حدوثها بحد ذاته، خصوصاً أن حركة بوزن حماس تقود مشروع المقاومة في فلسطين يُفترض أن تحظى بالمكانة التي تستحقها في الأوساط الرسمية العربية، أي المتوازية مع حجم إنجازاتها المقاومة وصونها لثوابت القضية الفلسطينية، لا أن يتصوّر بعض المحسوبين على حماس بأن سماح النظام الرسمي العربي للحركة بالتقارب معه أو لقاء بعض مكوّناته هو رافعة للحركة أو لمشروعها. فهذا النظام الرسمي المتهرئ على صعيد الفعل والإنجاز سيظل هو في حاجة لأن يحسّن علاقاته مع حركات التحرر في فلسطين وغيرها لتحسين حظوظه وتعديل نظرة شعوبه إليه، وليس العكس.

ومع ذلك، فثمة جملة من الوقائع تشي بأن التفاؤل بما بعد هذا الانفتاح العربي (الجزئي والشكلي) على حماس ينبغي ألا يبعث على تفاؤل مطلق أو توقّعات مبالغ فيها، فلو كان شيء من ذلك قابلاً للحدوث لحصل عشية الحرب الأولى على غزة 2008/2009، حين عُقدت قمة عربية لأجل غزة وشاركت فيها حماس لأول مرة (وآخر مرة أيضا) بوفد رسمي يمثل رأس هرمها السياسي، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ لا شيء يتعلق برفع حصار غزة أو دعم المقاومة أو تأكيد شرعيّتها، كل ما في الأمر أن سخونة الدم وقتها فرضت شيئاً من الحياء على السياسات الدبلوماسية الرسمية، في وقت لم تكن هناك ثورات قد حصلت ولا تغيّرات اعترت بنيان بعض هذه الأنظمة.

ولذلك، ليس منتظراً الآن، وبعد هذا التردي الكبير في واقع الأمة السياسي أن تنتج هذه الحالة نهوضاً في الاهتمام بقضية فلسطين وفي قلبها مسار المقاومة، ذلك أن الهواجس الأمنية باتت المعيار الذي تتعامل وفقه منظومة الأنظمة العربية، وهو معيار منطلق من مصلحة وحيدة تتمثل في الحرص على كل ما من شأنه أن يبقيها مسيطرة وغير مهددة بالتغيير، ولا يبدو أن أزمات بعضها الداخلية المتفاقمة (مثل مصر) يمكن أن تدفعها نحو تغيّرات تطال سياساتها الأساسية، لأنها في المقام الأول ليست مستعدة لاستعداء النظام الدولي سواء لأجل حماس أو لأجل مستقبل القضية الفلسطينية عموما.

ولهذا يبدو دائماً من المهم عدم الإسراف في البناء على توقّعات تنطلق من تحليلات رغائبية للمشهد المحلي والإقليمي، حتى لا تكون النتائج صادمة، كما كلّ مرة، بل ينبغي تقدير كلّ خطوة وفق مقاسها الحقيقي لا المتوهّم، حتى لو كانت تلك الخطوة واسعة وفيها افتراق واضح عن سابقاتها، ولعلّ بعض ما كان بمثابة (يقينيّات) ثم جرفها تيار الحقائق المتحصّل بفعل موجة الثورات المضادة وما أسسته من مفاهيم وسياسات يحيلنا إلى ضرورة إبصار اليقينيات الجديدة، ولكن دون تقديس أو استخفاف، والأهم من ذلك دون تعويل على جملة من الأوهام يُتقن بعض السياسيين تجميلها وتزييفها، ووضعها في سياقات خاطئة.

الثلاثاء، 8 مارس 2016

إنصاف المرأة يبدأ من المرأة



إنصاف المرأة يبدأ من المرأة
لمى خاطر


كثير هو ما يقال في يوم المرأة (8/آذار) من كل عام، لدرجة تحوّله إلى مقولات نمطية مكرورة يُعاد إنتاجها كل مرة، متمحورةً حول مفردات العدالة والمساواة والتمكين، وغير ذلك من مصطلحات تحوّلت مع الوقت إلى مجرد (كليشيهات) لا بد من حضورها في كل تنظير يتعلّق بالمرأة وحقوقها.

وقد بتنا نجد أن من يريد إثبات احترامه لحقوق المرأة يتخذ من قضايا المشاركة السياسية ووصولها إلى مراكز صنع القرار مدخلاً لذلك، مع إضافة بهارات متعلقة بلزوم رفع درجة تمثيلها في المؤسسات الرسمية المختلفة. فهل هذا ما تحتاجه المرأة حقا؟ وعلى النطاق الفلسطيني؛ هل لدينا نظام سياسي مستقر أو حياة مدنية سليمة لكي نبذل وقتاً في هذه المطالبات التي ستذروها الرياح بمجرد انتهاء الحديث عنها؟ نظراً للظروف الخاصة التي يعاني منها المجتمع بأسره وهو تحت الاحتلال، وسواء أكان رجلاً أم امرأة!

إن فهم حاجت المرأة الأساسية سينطلق قبل كل شيء من فهم وجوه معاناتها الجوهرية، وهي تكاد تنحصر في جانبين: الأول ما يفرزه وجود الاحتلال من معاناة عامة وخاصة، لأن هذه المعاناة حين تطال الرجل فإن انعكاسها على المرأة في محيطه يكون واضحاً ومباشرا، كتعرضه للأسر أو الشهادة أو الإعاقة، وهو ما يعني ضرورة الالتفات إلى تبعات هذه القضية ومدى تأثيرها على المرأة، أما الجانب الآخر لمعاناتها فهو الإفرازات الاجتماعية للعادات والتقاليد الجائرة، وهيمنتها على وضع المرأة وانتقاصها من حريتها، وكرامتها أحيانا، حين يتم بموجبها منح الرجل وصاية مطلقة على كل متعلقات المرأة وقراراتها وحريتها في اختيار ما يناسبها، وحين تظل في عرف المجتمع كائناً منقوص الأهلية، وملحقاً برغبات الرجل، ومفروضاً عليها أن تتحمل ما تعانيه في ظلّه، وأن تكون مجرّد آلة لإرضائه على جميع المستويات، حتى وإن لم يبذل لها ما يقابل صنيعها.

وهنا، وبعيداً عن ذمّ تلك الأعراف التي نازعت الشريعة الإسلامية مكانها ومكانتها، وأسقطت ما أقره الإسلام من حقوق أساسية للمرأة أو تصورات لوضعها، حين قرّر أنها كيان كامل الأهلية، إلا أن هناك قضية مهمة ينبغي الالتفات إليها إذا ما كانت هناك رغبة حقيقية بتغيير واقع المرأة في المجتمعات العربية، وإنصافها كما يجب. وهي ضرورة أن يتحول الأمر إلى ثقافية مجتمعية لا مجرّد شعارات يتم ترديدها في المواعظ واللقاءات الإعلامية ثم تُحيّد عند الممارسة.

ولا شك أن بداية الطريق تبدأ من عند المرأة نفسها، وخصوصاً الأم داخل الأسرة، لأن الأم التي تربي أبناءها على واقع التمييز بين الذكر والأنثى منذ لحظة الولادة سينشأ في ظلّها رجال يحملون مفاهيم مشوّهة حول المرأة، ونساء تلاحقهن دائماً عقدة النقص والدونية والضعف، والأم التي تصرف جلّ اهتمامها على أبنائها الذكور وتجعل من شقيقاتهم خادمات لهم، وتعطيهم وصايةً مطلقةً عليهن، ستساهم عملياً في إبقاء حال المرأة متراجعاً وحقوقها مغيّبة واحترامها ناقصا. وعلى العكس من ذلك نتاج المرأة التي تحسن تنشئة أبنائها وبناتها وتمنحهم فرصاً متساوية للتميز والحضور والإبداع، وتعزز فيهم مفاهيم سويّة حول علاقة الرجل بالمرأة، وحقوق وواجبات الجانبين.

ووعي المرأة بمركزية دورها في الإحسان إلى ذاتها وإنصافها سيختصر الكثير من مراحل تحسين أوضاعها ورفع الظلم الاجتماعي الواقع عليها، لأنها هي المربي الأول والغارس الأول للمفاهيم والتصورات في عقول الناشئة، وبالتالي فلا يُنتظر منها ممارسة الازدواجية فيما يتعلق بقضيتها.

ومع ذلك، فإن قضية المرأة ليست بجعلها حزباً أو طائفةً أو أقليةً مضطهدة، حتى وإن كانت هناك جوانب من الظلم الاجتماعي البيّن الواقعة عليها، فهذه تنتهي حين تُبصر المرأة مكامن قوّتها وحقيقة حقوقها، وحين يتخلى الرجل التقليدي عن عبادته لموروثات الغطرسة التي تبيح له امتهان إرادة المرأة في محيطه أو تكييفها وفق مقاسه وهواه 
.
لا تحتاج المرأة أكثر من أن تُمكّن من الوقوف في مكانها الصحيح والملائم طاقَتها وحدود إبداعها، دون أن توصدَ في وجهها الأبواب، ومثلما عليها أن تناضلَ على هذه الجبهة، ينبغي لها في المقابل أن ترفضَ إقحامها على مواقع وأماكن لا تُضيف لها ولقضيتها أو رسالتها شيئا، بل تُدفع لها أحياناً دون امتلاكها خبرة أو كفاءة، ولمجرد رغبة بعض مهووسي مجاراة الحداثة بتزيين مشهدهم بديكور اسمه (المرأة).

الثلاثاء، 1 مارس 2016

وقفة مع الإضرابات الفردية في سجون الاحتلال



وقفة مع الإضرابات الفردية في سجون الاحتلال
لمى خاطر


ثمة جدل متواصل في الشارع الفلسطيني يتجدد مع كلّ إضراب فردي يخوضه أسير داخل سجون الاحتلال، يتركّز حول الجدوى والأثر لهذا النوع من الإضراب، إذ هناك من يراه غير مجدٍ وأنه بات يشكّل عبئاً على الحركة الأسيرة التي ما عاد بإمكانها استئناف الإضرابات الجماعية نظراً لأن الإضراب الفردي رفع من سقف عدد الأيام التي يتعيّن على الأسير الإضراب فيها قبل أن يلتفت له السجان الصهيوني ويناقش مطالبه. وهناك من يرى أن الإضرابات الفردية لم تحقق إنجازات حقيقية على صعيد نجاحها في توفير حرية عاجلة للمضربين.

ويبدو أن كثيرين ممن يناقشون هذه الظاهرة يغفلون عن مدى الاختلاف بين الإضراب الجماعي والفردي، فالأول غاياته مطلبية، والثاني ينشد الحرية، أضف إلى ذلك أن ارتفاع سقف أيام الإضراب مردّه أن المضرب الفرد الذي يتّخذ قراراً بخوض الإضراب يملك طاقة تفوق ما يملكه المجموع الذي يتناقص في الغالب عدد الملتزمين بإضرابه مع تقدّم الأيام.

والأهم من كل هذا أن الحديث عن انعدام جدوى الإضراب الفردي يفتقد للموضوعية، ففي حالات الإضراب الفردي –وخصوصاً ما حصل مع محمد القيق- نجح محمد من خلال إضرابه في كسر قرارات تمديد الإداري التي كانت ستتخذ بحقه بعد إنهاء تمديده الأول، ورغم أنه سيمضي أول ستة شهور كاملة من قرار الاعتقال الإداري في السجن لكنه ضمن أن يخرج بعدها، في وقت لم نعد نجد فيه أسيراً يكتفي الاحتلال بقرار الإداري الأول بحقه، بل يعقبه بتمديدات متعاقبة تمتدّ لأعوام.

ومن جهة أخرى، تشكّل حالات الإضراب الفردي، كما حدث مع محمد القيق وخضر عدنان ومحمد علان وغيرهم تحدياً مهماً لإجراءات المحتل، بدلاً من التسليم بكل سياساته الاعتقالية والقبول بها من باب عدم إمكانية التأثير عليها، ومثل هذه الإرادة مطلوب حضورها في الوعي والواقع الفلسطيني وفي ظل الاحتلال، لأنها تكسر نمطية التعايش مع حالة الاحتلال والاضطرار لتحَمّل كل إفرازاتها، إذ ليس من الصواب ألا تواجه ظاهرة الاعتقال الواسعة في الضفة بما يكسر حدّتها ويؤثر على تغوّلها، والإضرابات الفردية شكّلت حتى الآن حالة التحدي الأفضل لها.

أما عن سلبيات هذه الإضرابات فتكاد تتلخّص في انعكاسها ميدانياً في الخارج عبر حالة واسعة من المزايدات، يقودها في الغالب مترفون ومنظرون، تارة بإلقاء اللوم على الفصائل، وتارة بنشر اتهامات وأكاذيب لا أساس لها، مع العلم أن إمكانية الإسناد الخارجي للإضراب الفردي تبقى محدودة، رغم أهميتها الكبيرة وخصوصاً حين تكون على شكل مظاهرات عند مناطق التماس مع الاحتلال، لكن الواقع يؤكّد دائماً أن حجم تفاعل الجمهور مع أي إضراب فردي لا يمكن أن يكون بحجم التفاعل مع نظيره الجماعي أو مع أي قضية تهمّ قطاعاً واسعاً من الجمهور وتستثير همّته وحميّته، وهذا الأمر لا علاقة للفصائل به، بل هو متعلّق بطبيعة الجمهور ومستويات تفاعله مع مختلف القضايا، فعلى سبيل المثال، نظمت حركة حماس عدداً كبيراً من الفعاليات في الضفة وغزة نصرةً لمحمد القيق، لكن حجم التفاعل معها كان متواضعا، ذلك أن قطاعاً واسعاً من الجمهور كان يراها قضية فردية بالدرجة الأولى، رغم أنها في جوهرها ليست كذلك، بل جزء من متطلبات تحدي الحالة الاعتقالية وخصوصاً الاعتقال الإداري الجائر الذي أكل أعمار الآلاف من الشباب في السجون، إنما لا يمكن الافتراض بأن عامة الناس يمتلكون الفهم ذاته حول ضرورات التحرّك وأهميّته حتى لو كان لأجل قضية فردية تهمّ المجموع في جوهرها. فالتحرك الميداني الواسع يتطلب درجة عالية من التسخين قد لا تكون متاحة في كل قضية.

في النهاية، يبقى الإضراب الفردي خياراً ذاتياً يتّخذه الأسير بمحض إرادته، ولا يملك أحد أن يصادر منه هذا الحق، ولكن في المقابل ينبغي أن يكون التعامل مع هذا النوع من القضايا واعياً ومدركاً بعيداً عن التورّط في المزايدات الفارغة ووصلات الهجاء الجماعي التي يمتهنها كثير من الناس، وخاصة من لا نصيب لهم في ميدان الفعل، إذ لا أسهل من اجتراح الاتهامات والمطالبات دون دفع ضريبة للفعل، ولا أسهل من استدرار عطف الجمهور بترحيل الأزمات نحو مساحات عبثية، لا سيما في فضاء مواقع التواصل، حيث تكثر الثرثرة والتذاكي والهوس باستجلاب المتابعات وادعاءات الفهم، ولو على حساب الحقيقة والموضوعية والصدق مع الذات.