الاثنين، 17 فبراير 2014

خطوط الإنزال وكمائن الإقلاع!
لمى خاطر


سيكون من بواعث الشفقة أكثر من أي شيء آخر حين تشاهد هذا الذي يعي تماماً أن ميدان المعارك محرّم عليه، بقانون أعدائه، وبمقاس مشروعه، وبمدى خيبته، وقد تفنّن في استعارة المصطلحات الحربية ليسبغها على لقاءاته التطبيعية مع محتليه، وجلسات خضوعه لهم ولمنطق ابتزازهم في الجولات المسماة (تمويها) مفاوضات!

بل إن لجوء المستويات الإعلامية والسياسية لقيادة السلطة على مرّ تاريخها إلى توظيف التعابير الحربية لوصف حراكها العقيم، لا يخفي فقط محاولات لتزويق الفشل وتسويقه إعلامياً بأغلفة براقة، إنما يشي كذلك بمكانة فقه المعارك وأدواته ووسائله في الوعي العام، حتى لدى مناوئيه أو العاجزين عن خوض غمار المعارك الحقيقية، ولذلك تجدهم يتعلّقون بأسمال مصطلحات العسكرة، ويحشرونها بين رفوف اتفاقاتهم، فتغدو التسوية المذلة هجومَ سلام، واللقاءات التطبيعية إنزالاً خلف خطوط العدو، وسفسطات صائب عريقات في شرح نظرية التفاوض خطة إستراتيجية ستوقع إسرائيل يوماً في كمائنها، وتوهان ممثلي السلطة في أروقة الأمم المتحدة (غير النظيف ولا المبرأ من التواطؤ مع إسرائيل) حرباً دبلوماسية ترتعد بسببها فرائص ليبرمان، وتصيب نتنياهو بداء الاكتئاب!

فليس فقط لأن الشارع الفلسطيني يعشق لغة السلاح وتعابير المواجهة ينبغي إتخام ذاكرته بما لذّ وطاب من توصيفاتها، بل كذلك لتذكيره بأن (قيادته) ما زالت على عهد النضال والثورة، حتى وهي غارقة في وحل العلاقات السياسية والتطبيعية الحميمية مع عدوها، وهي حميمية لدرجة أن إحدى الوكالات الفلسطينية المعروفة لم تجد غير عنوان يضرب على الوتر العاطفي لتنعت به لقاء محمود عباس بوفد من طلبة الجامعات الإسرائيليين، فقالت "ماذا فعل أبو مازن بقلوب طلبة الجامعات الاسرائيلية؟".. هكذا توهمت أو حاولت إيهام الغاضبين من اللقاء، بأن ثمة تغييراً (شعوريا) جذرياً قدّ حل فجأة بقطاع طلبة الجامعات في إسرائيل على خلفية اللقاء، وكأن جيلاً نشأ في أرض يراها موروثة عن أجداده، وتجنّد عسكرياً لخدمة جيشها ولدرء خطر من يحاولون زعزعة أمنه، يمكن أن تخلخل قناعاته كلمات موغلة في استجداء السلام وإنكار الحقوق وبذل ماء الوجه في سبيل إظهار نوايا الفلسطيني (المسالم)!

ليس بعيداً عن محاولات إلباس نهج التسوية العاري رداء (التقوى) العسكرية، تكمن حرب تمييع القضايا واللعب بالكلمات التي تخوضها أجهزة الأمن التي تسالم عدوّها وتخاصم شعبها، فلا ينفكّ محققوها وهم ينتزعون المعلومات من ضحايا بطشهم يمارسون محاولات بلهاء لغسل أدمغتهم، فيمنحون التنسيق الأمني بعداً وطنياً تتطلبه المصلحة العليا، كون (المعركة الدبلوماسية) الافتراضية التي يخوضها الرئيس وفريقه تتطلب هدوءاً قاتلاً على جبهة الواقع، وفرصة لإنجاحها غير قابلة للتعكير، ولو بزجاجة حارقة يرشق بها الشبان المنتفضون على الحواجز جيش الاحتلال.

ليس هناك ما يجلب الغرابة أو الاندهاش في كلّ سياسات السلطة مهما أوغلت في الانبطاح، إنما الغرابة فقط من قابلية المصطلحات والتوصيفات للتزييف في المشهد الفلسطيني، إذ لن تكون هناك مشكلة أبداً لو تسمّت الخيانة باسمها، وافتخر المطبّعون بتطبيعهم، وكشفوا عن نواياهم، وأبرز وكيل الاحتلال مهنته حين ينوب عنه في مهمة، بل حتى لو بقي اسم تلك العملية خطَّ تسوية أو حلّاً سلمياً أو مفاوضات طويلة الأمد.. أما السطو على (المقامات العليا) للألفاظ، وحشوها برديء المعاني فهي جريمة أخرى، لأن فيها سطواً آخر على عقول الناس، وعبثاً بذاكرتهم، ومحاولةً لتهيئتها لتقبّل الانحطاط إذا ما غيّر رداءه التقليدي، أو البكاء خشوعاً بين يدي الثعلب إذا ما خرج يوماً "في ثياب الواعظين"!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق