الأخطر من حلول التصفية!
لمى خاطر
كلّنا (تقريباً بلا استثناء) نستعير مصطلح (الحلول التصفوية) للقضية
لنعت اتفاقات التسوية المتعاقبة في تاريخ فلسطين المعاصر، والتي يتم توقيعها عادة
بين الاحتلال والطرف الفلسطيني القابل للتنازل والتفريط، برعاية جهات دولية يمكن
تصنيفها ضمن حلف الاحتلال فقط، وليس كوسيط بين الطرفين.
وليست الإشكالية هنا في التوصيف أو المصطلح بحدّ ذاته، إنما في
تجاهلنا أحياناً أو نسياننا القضية الأساسية التي تمثل الخطر الحقيقي على فلسطين
وهي خضوعها للاحتلال، فالاحتلال كان وما زال خطة التصفية المركزية التي استهدفت
فلسطين أرضاً وشعباً وحضارة، وكل ما طرأ لاحقاً من تسويات أو حلول ترقيعية يعدّ من
إفرازاته ونتائجه المباشرة.
وهنا لا ينبغي الاعتقاد بأن خطة كيري بتفصيلاتها الكثيرة تفوق خطراً احتلال
القدس وحيفا وعكا ويافا وتهويد مناطق الخط الأخضر منذ عشرات السنين بعد تهجير
أهلها وتغيير معالمها، ولا الاعتقاد بأن الاتجاه لجعل الضفة الغربية مجرد كانتونات
مفككة خاضعة لكيان إداري هشّ يسمى السلطة سيكون مختلفاً في درجة سوئه عن واقعها
الحالي القائم منذ سنوات.
لا أقول هذا للتهوين من مخاطر خطة كيري، ولا للتشكيك في جدوى
مناهضتها، بل لأن الأصل أن تكون النظرة الوطنية شاملة وغير جزئية، لأن تركيز
الأنظار على واقع الضفة الغربية وغزة فقط واستبطان الشعور بأنها وحدها الكيان الذي
ينتمي لنا وننتمي له كفلسطينيين هو اتجاه خطير للغاية، ليس فقط لأنه يغفل أصل
القضية وجوهرها ويسقط من الذاكرة كل جرائم الاحتلال السابقة، بل كذلك لأن الضفة
عملياً خاضعة لاحتلال مباشر، يطال الأرض والإنسان والموارد وكل مواقعها
الاستراتيجية، وما من مكان فيها يعجز الاحتلال عن الوصول إليه. ولذلك فحين نصف خطة
كيري بالتصفوية فليس لأنها ستفرز ما هو أخطر من الواقع الحالي بل لأنها تطمح
لإنهاء الجدل التفاوضي والسياسي حول القضية الفلسطينية وفق أوهام ما يُسمى بالحل
النهائي، غير أن قضية فلسطين تحديداً أثبتت وتثبت دائماً أنه ما من إمكانية لوضع
نهائي فيها ما دامت محتلة.
أما الخطورة الحقيقية التي ينبغي التركيز عليها عند تناول وتداول (خطة
كيري) وغيرها من حلول للتسوية فهي أثرها المباشر على المقاومة، أي على العامل
الوحيد القابل لمناهضة الإشكال الوحيد وهو الاحتلال. وقد كان الخطر الحقيقي
للاتفاقات السابقة متمثلاً في نجاحها (جزئياً أو كليا) في مراحل معينة بتصفية
المقاومة أو تجريمها، أي أن التصفية التي تترتب على هكذا تسويات أو خطط للحل هي
تصفية المقاومة وليس القضية، لأنه لن يمرّ على قضية فلسطين ما هو أخطر وأسوأ من
احتلالها، ومن الخطأ الاعتقاد بخطورة إجراءات الاحتلال أكثر من حالة الاحتلال
نفسها. وحالة الاحتلال هذه لا تواجه إلا بالمقاومة وبتركيز ثقل المشروع الوطني
ليخدم هذا التوجّه ويساعد في تمتينه.
بناء على ذلك، لا ينبغي أن يكون مقياس البطولة الفلسطينية رفض بعض
المقترحات أو التحفظ عليها، بل الموقف من عملية المقاومة هو المعيار الأهم، وهو
القاعدة التي ينبغي الاحتكام عليها وإليها، هذا إن كنّا فعلاً ندرك أصل مشكلتنا
ومعضلتها، فهذا الإدراك سينبني عليه تلقائياً وعي بمركزية قضية المقاومة في
المشروع الوطني لمن يواجهون الاحتلال ويتحدثون عن ضرورة إنهائه، وسينبني عليه
أيضاً وعي بضرورة عدم الاغترار بأنصاف أو أرباع المواقف لأي قائد أو فصيل يزيّن
خطابه بالحديث عن رفض التنازل عن الحقوق، ويحسب نفسه على مشروع التحرّر، فيما هو
عملياً محارب للمقاومة فكراً وسلوكا، فضلاً عن كونه رهان الاحتلال وأحد أهم عوامل
استقراره!
كل توجّه يمكّن للمقاومة ويحترم خيارها ينبغي أن يُحترم ويُدعم، لكن
اللسان الذي يجرّمها واليد التي تحاربها لا يستحقّان المكافأة، حتى لو بدا لبعض
(العقلاء) أن المرونة تتطلب تجاهل الأصل والانشغال بما تتطلبه المواقف الفرعية أو
الناقصة، انخداعاً بإيحائها المباشر وتغافلاً عن وجهها الآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق