ذكرى الثورة، وذاكرتها
لمى خاطر
بماذا عساي أتحدث بعد مرور ثلاثة أعوام على اندلاع الثورة السورية؟
وكيف يجمل بي أن ألخّص في مقال حكاية صاغ الدم فصولها، وظل شامتها البيّنة رغم
تداخل فصول محيّرة في خضم أيامها الطويلة؟
قد لا يبدو الحديث في الشأن السياسي مغرياً في مناسبة كهذه، رغم أن
تشويها تقصدها وظلّ يمعن نصله في رقبتها لغايات مشبوهة، أهمّها تنفير الوعي العربي
من مآلات الثورة وعواقب الانتفاض، وحمله على الزهد بتلك الحرية الآتية على ظهر
الجماجم وتعب سنوات الانتظار والتشرد في المنافي!
إنما بالنسبة لي، أنا الفلسطينية البعيدة عن هذه الساحة، كان حدث
اندلاع الثورة السورية ذا أثر بعيد في نفسي التي تلقته كما تستقبل الرمضاء المطر
بعد طول انقطاع، فيختزن رملها ماءه، ليرطب جوفها وينعش مداها، وثمة حادثة واحدة
أحدثت فيّ فعلاً مشابهاً هي الانتفاضة الفلسطينية الأولى، رغم حداثة سنّي عشية
اندلاعها، لكنها كانت مرحلة مفصلية غنية بالمعاني الكبيرة، وبإفرازاتها في الواقع،
تماماً كما هو حال الثورة السورية، التي أحدثت الانعطافة الأهم في الواقع العربي
وفي وعي جمهوره، وحررته من الوهم أو من جملة أوهام اعتنقها مكرهاً أو مخدوعا.
هذه الثورة التي ما عاد جديداً أن نقول عنها إنها أثبتت أن الاستبداد
لا يدوم وأن قبضته لن تهزم الإرادة ولن تقتل نبض الحرية أو تزهق روحها. وإنها
أعادت إنتاج المفاهيم المجرّدة بعيداً عن تكريرها المشوّه وتطويعها في معامل
الطغاة.
وهذه الثورة التي رصّعت بداياتها بأيقونات بعيدة الدلالة كحمزة الخطيب
وإبراهيم القاشوش وغياث مطر، وغيرهم الكثير، فما بين أحلام الطفولة وهتاف الحناجر
غرس الجزار سكاكينه، وأرعبه أن تحتضن عيون طفل مبادئ الثورة مثلما أرّق ليله أن
تهتف حنجرة القاشوش في ساحة العاصي في يوم حموي مهيب، كأن لا مجازر ولا مجنزرات
فتكت ببهاء هذه المدينة، وكأن لا مشانق نصبت لآلاف من بنيها فأورثتها حزناً مميتاً
وساحقاً للرغبة في الفرح والحياة.
خلال ثلاثة أعوام، جرت مياه كثيرة تحت جسر الثورة السورية، وكلّما
تقدم بها الزمان دون حسم زادت مطامع أعدائها (وما أكثرهم)، منهم من يبتغي إدامة
حالة الاستنزاف تمهيداً للقبول بحل مشوّه، ومنهم من يوظّف وصله المشبوه بها
لتجريدها من نهاية مشرقة، وإلزامها بيتَ الطاعة، بنسخته العربية المشوّهة، حتى لا
تنتقل عدوى الثورة الشاملة إلى بلاد عشّش فيها الاستبداد وتوارثته جيلاً بعد جيل،
حتى غدا خيار شعوبها الذي لا ثاني له!
وكحال أية قضية عادلة أخرى، فإن موجبات الثورة وعوامل انبعاثها وعدالة
مطالبها لا يقدح فيها نفر من المدافعين الزائفين عنها أو بعض الناطقين باسمها
الذين لا بد أن تُرزَأ بهم خلال مسيرتها، إنما تبقى الحاجة لمكافحة الزيف
والانتباه لخطورته مبكراً مهمة شاقة لا تقل صعوبة عن النضال ضد العدوّ الظاهر أو
المشترك لمختلف معارضيه، ولعلّ طول أمد الثورة في سوريا سيكون لصالحها على المدى
البعيد، لأن الزمن وحده سيتكفل بكشف الأقنعة وغربلة المواقف وتقليل التناقضات في
المشهد، كما سيتكفل بالإبقاء على الفئات النقية في مسار الثورة والتضحية الطويل.
أن تعبر الثورة عاماً آخر يعني أن عقود القمع لم تصنع شيئاً سوى أنها
جعلت الحرية حلماً جديراً بالنضال المرير، وأنها عاظمت من قيمتها في وعي السوريين
إلى درجة ما عاد ممكناً معها الرجوع أو الانكسار أمام البطش، ذلك أن العيش تحت
مطرقة الهوان وسحق الكرامة هو موت بطيء لا يقلّ ألمه عن الموت بالقصف أو تحت سياط
التعذيب.
إنها ليست مناسبة للاحتفال، ولا للوقوف على الأطلال؛ أطلال البدايات
المشرقة الخالية من الزيف، كما أنها ليست مناسبة لمراكمة الأسى، على الضحايا أو
الأحياء المهدمة أو المعاني الغائبة. إنما هي محطة للمراجعة، واستخلاص دروس
المراحل كلّها، والتزوّد من معين البدايات بوقود يُعين على مواصلة المسير حتى بلوغ
الغاية، (ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق