ثورة يناير وصكوك الغفران!
لمى خاطر
في خضمّ النقاشات واللقاءات والاحتفالات التي رافقت إحياء الذكرى
الثالثة لثورة يناير برز كثير من التناقضات والمغالطات المرافقة، ولعلّ أكثرها
إدهاشاً كان احتفاء رموز ومؤسسات نظام الانقلاب بها، أي نظام مبارك نفسه مع تحديثٍ
أكثر سطوة وإجراما.
ومع أنه لا ينبغي لمثل هذا الأمر أن يثير استغرابا، كون المشهد المصري
(وخصوصاً بعد الانقلاب) أصبح طافحاً بكل الغرائب ليس ابتداء بمحاكمة الرئيس مرسي
بتهمة الهروب من سجون مبارك الذي قامت عليه الثورة أصلاً وليس انتهاء بادعاء
محاربة إرهاب الإخوان ومناهضي الانقلاب فيما هم يُقتلون في الشوارع بدم بارد وهم
عزّل لا يملكون سوى حناجرهم. إلا أن جرأة نظام الانقلاب على استغفال الجمهور ما
زالت تثير في النفس مرارات كثيرة.
وفي خضمّ المشهد الاحتفالي برزت أيضاً نتوءات تحمل من التناقض
والتضليل أكثر مما يحتمله استحضار تلك الثورة، لأنه بدل أن تُستغل المناسبة لإعادة
تشكيل طيف الحراك الثوري، كما طالب الثوار الحاليون في الميادين، رأينا أن كثيراً
من (نجوم الثورة) التي ضمنت لنفسها لقب (ثائر) أو (حركة ثورية) تمعن في إرباك
المشهد حين تفترض أن الزمن توقف عند ثورة يناير، وكأنه لم تجر تحت جسرها مياه
كثيرة خلال السنوات الثلاث، وهي مياه كانت كفيلة بجرف أوهام عديدة وإجلاء المشهد
عن حقائق يفترض أن يجري التركيز فيها، بدلاً من اجترار تفصيلات لا تقدّم ولا
تؤخّر.
إنما حقيقة الأمر أن جزءاً ممن شاركوا في ثورة يناير ومنحوا أنفسهم
صكوك غفرانها ثم تحالفوا لاحقاً مع العسكر وزيّنوا انقلابه في سبيل الخلاص من خصم
قوي على الساحة، هؤلاء فرغت بضاعتهم إلا من الهجوم على الإخوان واستحضار أخطائهم
السابقة الاجتهادية، رغم أن جميع القوى أخطأت وأساءت التقدير ولم تفهم حقيقة
الدولة العميقة وسياستها بالتضحية بمبارك لصالح دولة الضباط إلا بعد انقلاب يونيو،
لكن استمرار تركيز الهجوم على الإخوان وحدهم يرمي كذلك للتغطية على الخيانة
الحقيقية التي قارفها كل ممكّن للانقلاب ومساهم فيه، ليس فقط من تمّ شراؤهم ومنحهم
امتيازات لقاء جهودهم في حلف العسكر، إنما أيضاً أولئك الذين اعتقدوا أن مجرد
المشاركة في ثورة يناير قد منحتهم صك غفران أبدي، فلا يهمّ ما فعلوا بعدها، ولا
يعني شيئاً أنهم صمتوا عن نصرة المذبوحين في الشوارع وعن عشرات آلاف المعتقلين،
وعن قوانين الفاشية الجديدة التي يراكمها حلف العسكر بعد إزاحة الإخوان عن المشهد
السياسي واعتبارهم حركة إرهابية بقرار (حكومي)!
لا بدّ أن يقال الكثير هنا حول الكيدية والأحقاد السياسية، وحول
الغفلة وانعدام الرؤية وتيه البوصلة لدى كثير من النخب والحركات السياسية، حتى تلك
التي تصنّف نفسها ثورية، رغم أنها تقاعدت بعد عام من الثورة، ولم يتم استحضارها
إلا للمشاركة في مشهد الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب، ولا بدّ من التذكير أيضاً
بأن تلك الانتخابات لم تكن حكراً على الإخوان وحدهم، بل شاركت فيها جميع التيارات
والأحزاب والائتلافات الشبابية، وحتى الرموز التي كانت تعتقد منذ البداية بضرورة
هدم مؤسسات الدولة وليس إصلاحها بالتدريج. وبالتالي، لا يجوز الآن محاكمة الإخوان
وحدهم بأثر رجعي على اجتهاد خاطئ ساهم فيه الجميع، وفي كل الأحوال لا يمكن وضع
الاجتهاد السياسي الخاطئ في سلة واحدة مع خطيئة منح غطاء للإجرام ونهج الإبادة
الدموي الذي يجري الآن.
ولو أن هناك تيارات حقيقية حريصة على استكمال الثورة أو ما يُسمى
(تحقيق أهداف ثورة يناير) فلن يكون صعباً التلاقي على نقطة ارتكاز جامعة تشكّل
انطلاقة جديدة لمناهضة حكم العسكر ومؤسساته وأدواته. أما اختيار بعض ثوار الأمس
الاكتفاء بهالة صنعتها لهم ثورة يناير واعتقادهم أنها تمنحهم الحق في التنظير
وتوزيع أوصاف الثورية من عدمها على الآخرين فهذا نوع رديء وخاسر من التجارة، لن
يلبث أن يتجاوزه الزمن. فيما سيكون الظفر من نصيب من صمد وقاوم حتى النفس الأخير،
وتحدّى أعتى آلة دموية في تاريخ مصر المعاصر.